لن يتغير الموروث الفكري والمجتمعي البائد المُنصب على تبجيل المؤهلات العليا، والتهافت على كليات القمة وغيرها، حتى وإن لَفظت عاطلًا عالة على الوطن مُكبدًا الدولة خسائر اقتصادية؛ تحت مظلة سنوات تعليمه ثم خسارة أكبر بعدم الانتفاع به بمهنة؛ المعروض منها زيادة على حاجة السوق والمجتمع، لن يتغير هذا الفكر إلا بخطوات جادة لرفع شأن التعليم المتوسط وتوفير فرص عمل لحامليه.
وهذه الإستراتيجية بدأت فيها الدولة فعليًا بتدشين "مدارس التكنولوجيا"؛ حيث توسعت مصر في إنشاء عددٍ من المدارس بهدف دعم التخصصات الصناعية والاستثمارية المختلفة، وتوطين الصناعات التكنولوجية الكبرى على أرضنا؛ عبر تأهيل وتدريب طلاب هذه المدارس من الشباب الواعد لاختراق سوق العمل من أوسع أبوابه، مع تقديم لطلابها العديد من المميزات النسبية فيما يتعلق بالتدريب والتوظيف.
فمن البنية التحتية الفنية والتكنولوجية لتلك المدارس؛ استطاع الطالب تلقي العلم على أحدث طراز من خلال معامل ابتكار وأنظمة رقمية؛ فهي مدارس ذكية وتوفر خدمات الانتقال لسوق العمل وتمنح الطالب فرصة تدريب عملي داخل المدرسة أثناء الدراسة، كما تمنح الطالب شهادة معتمدة تعادل دبلوم المدارس الفنية نظام السنوات الثلاث، بالتوازي مع حرص الوزارة من خلال منظومة التعليم الفني على تطوير القدرات المهنية للقوى العاملة المصرية، وزيادة القدرة التنافسية لها محليًا ودوليًا.
كما أنها تُعد مدارس خضراء صديقة للبيئة تعمل بالطاقة الشمسية وتُطبق نظام إعادة تدوير المياه وترشيد الطاقة.
ولعل النجاح الذي حققته المدارس التكنولوجية خلال العامين الماضيين، جعلها تتكاثر بدعم من الدولة من أجل تحقيق أن يصل عددها إلى أكثر من مائة مدرسة بحلول عام ٢٠٣٠.
والملفت أن هذه المدارس تقوم على الشراكة بين وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني وشركات القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية؛ من خلال منهج دراسي مُفعل بثلاثة مكونات أساسية وهي: العلوم الأساسية والثقافية، والعلوم الفنية في مجال التخصص، والتدريب العملي داخل المصانع والشركات.
ومن هنا نثمن مجهود أول مدرستين تم إطلاقهما في العام الدراسي ٢٠١٨-٢٠١٩، وهما "مدرسة العربي للتكنولوجيا التطبيقية" بمحافظة المنوفية ومدرسة التكنولوجيا التطبيقية للميكاترونيات المتخصصة بمحافظة القاهرة، ومعهما مدرسة الإمام محمد متولي الشعراوي للتكنولوجيا التطبيقية المتخصصة بمجالات التشطيبات المعمارية وتبريد وتكييف الهواء والكهرباء.
وبالنظر إلى أهم العوائق التي تحول دون إتمام المدارس التكنولوجية؛ نجد أن العائق الأساسي هو الدعم المادي القائم عليه التوسع في هذه المنظومة من أجل الارتقاء بالتعليم الفني ومن أجل رفع مستوى الأداء، فهناك حلقة مفقودة وهي التدريب والتطبيق على أرض الواقع في المصانع والشركات المختلفة، فلا تعليم وتدريب بدون ممارسة تطبيقية فعلية؛ كما أن مصاريف هذه المدارس تعد عبئًا على ميزانية أغلب الأسر المصرية؛ لذا نهيب برجال الأعمال دعم جهود الدولة في الارتقاء بالمدارس الثانوية الصناعية والفندقية المختلفة؛ هذه المدارس التي يمثل طلابها النسبة الأعلى من طلاب التعليم الثانوي، مما يحل معضلة عدم تناسب الكم الهائل من طلاب التعليم الفني مع عدد المدارس التكنولوجية؛ فنحن بحاجة إلى تعليم وطني شامل وعدم الاكتفاء بنجاح التجربة الخاصة بعدد قليل من مدارس التعليم الفني.
فتعميم هذه التجربة واجب على جميع الأطياف لتغطية ملايين من الطلاب، ويجب أن تُدار وتوضع الرؤى الخاصة بالتعليم في مصر بما يتماثل مع قوة الدولة المصرية وعراقتها، وعدم التوقف عند مرحلة بعينها؛ فالتجربة مصرية خالصة بعيدًا عن التجارب المعلبة المستوردة من الخارج؛ فكل دولة لها ظروفها ووضعها الخاص، وليس أصعب من معاناة دولتنا مع أعداد طلبة الثانوية العامة وعدم استيعاب الجامعات لهذا الكم من خريجيها، ومن هنا يجب أن يكون التوجه نحو تطوير التعليم الفني، الذي يستحوذ على الجانب الأكبر من طلاب الثانوي، ووضع خطة شاملة لتطوير التعليم الفني بما يتماشى مع طبيعة وإمكانات مختلف فئات الشعب المصري مدعومة من رجال الأعمال ومنظمات خيرية وهو ما سيكون له مردود قوي في خلق كوادر نافعة لسوق العمل؛ وهو ما شهدناه في أعقاب ثورة يوليو من توسع في المدارس الفنية التي خرجت جيلًا استطاع قيادة النهضة الصناعية في ذلك الوقت، ونتمنى استمرارها بعد إعادة تدشينها ورسم هيكلتها في مصر الجديدة.