نعم.. في البدء كانت الكلمة.. فكان الوجود والكون والحياة والزمان والمكان والإنسان.. ومع الإنسان انساب القلم.. فكانت الكتابة وكانت القراءة وكان الإبداع.. وكان اتصال السماء بالأرض عبر الكلمة.. فكل كتاب جديد يصدر في شارع المكتبات هو إضافة، بل قيمة مضافة.
وإني لأرحب بكتاب المفكر العماني الدكتور أنور الرواس أستاذ الإعلام السياسي بجامعة السلطان قابوس، (جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع) الذي وضع على رفوف المكتبة العربية قبل أيام، فالكتاب هو.. الأطول عمرا والأغزر فكرًا.. والأقوى أثرًا، حين يطوي النسيان كل شيء.. وتبقى العصمة في يد الكتاب، مهما كانت غواية الصورة، ووشاية اللقطة الإلكترونية، وفتنة الميديا بما فيها من غث وثمين...!.
وفي سياق تقليب تربة هذا الكتاب للدكتور الرواس تبقى الإشارة إلى مجموعة من الظواهر الأسلوبية التي تمثل أعمدة لإستراتيجية الإقناع والتأثير لدى كاتبنا، إذ تستوقفك مجموعة من العتبات النصية التي تشكل مواقع إستراتيجية في الكتاب، سواء أكانت في شكل عناوين خارجية وداخلية، أم فواتح ونهايات، أم تواريخ نشر، أم هوامش وملحقات، ومع أنها - كمتعاليات نصية - تقع خارج النص الأصلي، بيد أنها تعمل على تعضيده فيغتني بها، وتفتح له آفاقًا للتلقي أكثر اتساعًا، كما نقول في الأدبيات النقدية.
*
وأول هذه العتبات «عتبة العنوان» كأول لقاء بين القارئ والنص، ونقطة الافتراق حيث يصير هو آخر أعمال الكاتب وأول أعمال القارئ، وعنوان «جدلية المواطن والسلطة» يفكر كثيرًا لمحتويات الكتاب، إذ يشي بأكثر من معنى، فهو يعتمد على علاقة الجدل القائم دائمًا بين المواطن والسلطة، وقد تعمد وضع كلمة «جدلية» لتحدد المنظور الذي يستخدمه في رؤيته لتقاطعات هذه العلاقة بتعارضاتها وتوافقاتها، ضمن سياق قانون جدل الكون والإنسان والأشياء، وتكررت كلمة الجدل ومشتقاتها المعنوية عدة مرات في سياقات متباينة.
وثانيا.. يؤشر الغلاف إلى تعامل الكاتب مع معنى السلطة، وهو ليس بالمعنى المحصور فقط في بعدها السياسي، بل ينسحب على كل أنواع السلطة من اجتماعية وثقافية واقتصادية ومجتمعية، خارجية كانت أم داخلية، وقد أحسن حين أرفق هذا العنوان بعنوان شارح «قراءة جديدة في الدولة والمجتمع» إدراكًا منه لمعنى القراءة الذي لا ينحصر في إطاره الضيق، بل يتسع لاحتواء الدلالات المتعددة التي يشي بها فعل «اقرأ» في كل أبعاده.
وتقترن دلالية هذا العنوان برمزية الغلاف، كعتبة خارجية أخرى من العتبات النصية التي يوليها الكاتب اهتمامه، فيرينا الغلاف أكثر من رمز ومرموز له، وهو الذي شكله الفنان المصري الدكتور عبدالكريم محمود، طبقًا لاستقطاره مضمون الكتاب، فهناك.. القلم وهو محور المعرفة الإنسانية الصاعدة باستمرار، والعنصر الأكثر وضوحًا كأداة بيان وتبيين ووسيلة إبلاغ وتغيير.. والدماغ وذبذباته الفكرية.. والمجتمع والعالم وكسر القشرة الصلدة بتفكيكها لإعادة تشكيلها.. المواطن المشارك بفعله الخلاق.. والمعول المتحرك بين الهدم والبناء.. ودائرة السلطة والسهم الذي يكاد يطبق.. والوجه بتوجهه وتوجسه، والشفاه كقناة للتعبير.. كل أولئك في لوحة معبأة الدلالات، متجاورة الأبعاد، مترابطة الدوائر، متناسجة الخيوط، مشدودة إلى القلم الذي يعد بطل اللوحة المكتنزة! وهي لوحة تؤكد أن فن الغلاف نافذة للتحليق في فضاء الكتاب، وليس ترفا أو مجرد لوحة لونية، أو شيئا مهملا، بل صار يسهم في توصيل رسالة الكاتب كلغة تقدم ثقافة بصرية للناس، ومفتاح تجميع المعلومات، وعنصر جذب للقراء، بل هو قراءة إبداعية أخري للكتاب ومدخل مهم لعالمه، وبغض النظر عن مضمونه ومؤلفه، فإنه يختزل في غلافه الفكرة، فثمة رابط ما بين العنوان وشكل الغلاف.
*
ويمثل الإهداء عتبة جمالية من المتعاليات النصية التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من عملية الكتابة وتجربة التلقي، وقد أهدى المؤلف كتابه «إلى عمان الوطن...» تلك الكلمة التي تختزل أسمى المشاعر، وتختزن أعظم الأحاسيس وتشكل تاجًا لكل مواطن، وسياجًا له، يعزز الهوية، ويضاعف الانتماء، ويعلي الهمة، ويوسع أفق الطموح، ومن الملاحظ تكرار كلمة «الوطن» بكل اشتقاقاتها في خلايا الكتاب، تغلفها أطروحاته في كل ما يكتب، وفي كل سياقاتها، إنما تجيء معطرة بالحب والتقديس والرفعة والصالح العام، وتكشف عن الحس الوطني الرفيع للوطن بتاريخه وجغرافيته، وبشريته وإنسانيته، وحاضره وحضارته، زمانا ومكانا وإنسانا.
*
استخدم الكاتب مائتي عنوان في كتابه هذا، وصنفها تحت ستة فصول تراوحت بين السياسي والإعلامي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي، فجاء عنوان كل فصل، ليفكر لمجموعة الرؤى التي تطرحها مقالاته، إذ ينهض العنوان بوظيفة إدراكية مهمة تهيئ القارئ لبناء تفسير للنص، أو ما يتحدث عنه المقال، وأن عناوين النص جزء من البنية الكبرى، وأنه علامة إجرائية لمقاربة النصوص بغية استقرائها واستيعابها، تحيل على مجموعة من العلامات المشكلة للمعني، تحدد له جملة من الوظائف التي تعين العمل أو مضمونه، أو تمنحه قيمته منجزا بذلك ثلاث وظائف: تسمياتية وتعيينية وإشهارية.
وعتبة العنوان ذات علاقة جدلية تتحلق في كثير من الأحيان حول طبيعة النص في مركزيته وما يحتويه العنوان من معانٍ مكثفة ومستوحاة مما يدور داخل النسيج الفكري، فأحيانا يستخدم كاتبنا «العنوان الساخر» الذي يكسر أفق التوقع كمثل «عفوًا القنوات مشغولة» و«عندما يكون التاجر وزيرًا» وأحيانا يحمل «العنوان التساؤلي» وهو بذلك يدعو القارئ إلى التشارك معه في التعامل مع المشكلة المطروحة لإحداث التفاعل باستقطاب الوعي، وهناك «العنوان المكاني» الذي تشي به المقالات تأكيدًا على تفاعل المشاهدة العينية مع المشاهدة الفؤادية..«عمان اليوم..» و«مسقط والتخطيط السليم» وهناك «العنوان التجريدي»، مثل: «لغة الحوار» و«الثوب الفضفاض» و«العنوان التشخيصي» الذي يرمز إليه عنوان «جدلية المثقف العماني» ويميل د. أنور الرواس في كثير من عناوينه إلى البعد الأيديولوجي، فيحملها رؤيته الواضحة ورأيه الصريح، طبقا لمعتقداته وقناعاته، ويتبدى حرص الكاتب في وضعية عناوين مقالاته، كعناوين بؤرية، فكل عنوان يبدو كأنه يفكر لمقالات الفصل في كليته، فيغدو بمثابة عملية تأشير لها، واختزال لما فيها من أفكار، بجدلية نسميها في الأدبيات النقدية «جدلية العنوان والنص» فيختصر الكاتب نصه في العنوان.
وهكذا.. تؤكد إستراتيجية العنونة عند الكاتب د. أنور الرواس حيوية العنوان، وأهمية وجوده على رأس النص، ودرجة تدخله في توجيه فضاء المتن وبناء معنى الخطاب، الأمر الذي يجعل العناوين مفتوحة على كل الاحتمالات.
*
ننتظر الكثير.. والعميق.. والجديد.. من (مكتبة الدكتور أنور الرواس) والتي وعدتنا بها دار المعارف التي نشرت وطبعت الكتاب، إذ قالت إنها تقدم إلى العالم العربي مثقفا خليجيا موسوعي النظرة والمنظور، لم يشأ أن تظل أطروحاته حبيسة أسوار الحرم الجامعي، بل تُجاوزها إلى فضاء المجتمع الأكثر رحابة، عبر قلمه الجريء، الذي يصهل به في وسائل الإعلام العُمانية والعربية والإقليمية منذ أكثر من 40 عاما ويطرح في كتابه قضايا تمس عذابات المتلقي وأشواقه، وتشتبك مع آماله وآلامه، بما يثيره من ثقافة الأسئلة، ويدعو إلى التفكير في اللاَّمفكر فيه، ويحفر في طبقات الوعي العام، ويكسر القشرة الصلدة التي تحول بين المواطن والرؤية الواقعية للعالم والإنسان والكون.