Close ad

د. حسام الإمام يكنب: حدث بالفعل (3).. انتظروني في رمضان

9-3-2022 | 18:41

كان ذلك في أحد شوارع مدينة نصر الكبيرة والمزدحمة، بعد شراء بعض المستلزمات وأثناء عودتي إلى زوجتي التي كانت تنتظرني أمام أحد المحال التجارية، رفعت يدي لأشير لها كي نتحرك، فإذا بأذني تلتقط هتافًا عاليًا لبعض الفتيات اللواتي لم تتجاوز أعمارهن الثانية عشرة يهتفن: بنت الزبال أهه، بنت الزبال أهه.
 
التفتُ لأجد ثلاث فتيات صغيرات يهتفن في وجه أخرى تقف بمفردها وتبكى بكاءً شديدًا، ذهبت إليهن وأنا لا أستوعب ما يحدث وسألتهن: "انتوا بتقولوا إيه يا بنات؟" فبدأن يرددن نفس الجملة المستفزة بمنتهى الحماس.
 
بادرت قائلًا: "ليه كده يا بنات عيب، كده غلط، دى صاحبتكم، ليه تزعلوها كده؟"، قالت إحداهن وكانت بصراحة بطلة في الاستفزاز: "لأ.. دى مش صاحبتنا.. دى بنت الراجل الزبال إللي هناك ده"، التفتُ خلفي لأجد رجلًا قد تجاوز الخمسين من عمره يمسك بمكنسته، وينظر إلى ابنته وهي في أيدي هؤلاء الفتيات الجامحات، تقف لا حول لها ولا قوة، وهو أكثر منها بؤسًا لا يدري ماذا يفعل، فتوقعت أن الفتيات بنات شخصية معروفة في المنطقة، وأن الرجل لا يستطيع أن يوقف وقاحتهن خوفًا من بطش والدهن، فزادني ذلك إصرارًا على نصرة الفتاة وأبيها. 
 
قلت للبنات: "عيب كده يا بنات، عيب نقول كده لأي حد، دي زي أختكم"، ردت نفس الفتاة المستفزة: "لأ مش زي أختنا.. دي أبوها زبال وريحتها وحشة".. قالت ذلك والفتاة تبكي وتنتحب بشدة.. وأنا يتقطَّع قلبي من أجلها، وفي نفس الوقت أحاول أن أتمالك نفسي، وأصر على مناقشة الفتيات لأقنعهن بأن ما يقُلنه عيب ولا يصح، لكن لا حياة لمن تنادي، أنا أناقش وأحاول الإقناع، وهن ينظرن إليَّ وينتظرن حتى أنتهي، ثم يبدأن في إنشاد معزوفة: "بنت الزبال أهه".. والبنت تبكي، والأب يئن، وأنا لا أدري ماذا أفعل!!
 
بدأت بعض السيدات في الشارع ينتبهن لما يحدث، فتوقفن واحتضنت إحداهن الفتاة الباكية، وبدأن في التخفيف عنها.. نظرت حولي فوجدت كل العمال في المحلات المجاورة يقفون على أبواب محلاتهم ويصورونني بأجهزة الموبايل، وأنا أتعجب من موقفهم!! هل وصلنا إلى هذا الحد من التبلد؟! لماذا لا يأتون ويحاولون إسكات الفتيات، أو جبر خاطر عامل النظافة؟! هل هذا هو كل ما يستطيعون فعله، التصوير والشير على الفيسبوك؟!
 
قلت للفتيات: "لو واحدة باباها بيشتغل وزير وقالت لواحدة منكم إنتي أبوكي غلبان، وأنا أحسن منك، وانتي ريحتك وحشة، زي ما بتقولوا دلوقت، تبقوا مبسوطين ولا تقولولها عيب؟!"، قالت إحداهن: "لا طبعًا مش هنبقى مبسوطين.. لكن.."، وفجأة بدأت تردد مرة أخرى والباقيات معها: "بنت الزبال أهه".
 
في تلك اللحظة نجحت الفتيات في إثارتي إلى أقصى درجة فصحت في وجوههن: عيب كده.. كده غلط.. إيه الأخلاق دي.. إيه التربية دي؟ والتفتُ حولي سائلًا: "حد يعرف فين أبوهم، شوفوا أهلهم فين.. عيب كده"؟!

ثم استدرت باحثًا عن الطفلة الباكية، وأنا أبحث عن أي شيء يمكن أن يخفف عنها، فما كان مني إلا أن قلت لها: "على فكرة أنا بابا كان زبال.."، توقفت الفتاة عن البكاء، ونظرت إلى وجهي باستغراب، فقلت لها: "أيوه أنا بابا كان زبال.. هو مش الزبال ده لو بطل شغل كل الناس اللي حوالينا دول هتبقى مش نضيفة؟!.. فجأة توقفت الفتاة عن البكاء ولم ترد، ثم استدارت وتركتنا وانصرفت بعيدًا.
 
استدرت فوجدت زوجتي تنظر نحويِّ وتبتسم ابتسامة من يريد أن يقول: "طول عمرك تعاند وتقول عمري ما أقع في مقلب"، وقالت: "على فكرة كل إللي حصل ده كان مقلب".
 
نظرت إليها وأنا لا أستوعب شيئًا، فقد كانت الفتيات قد وصلن بي إلى قمة الانفعال!! قلت لها: "مقلب؟ مقلب إيه؟"، قالت: "ده برنامج الصدمة إللي بيتذاع في رمضان"، نظرت إليها وكلي ذهول لم يخرجني منه بل ربما زادني ذهولًا وجه الإعلامي "كريم كوجاك" قادمًا من بعيد يحمل الميكروفون، ويطلب مني أن أتوقف لأتحدث معه معلقًا على ما حدث.
 
ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أقول له: "يخرب عقلك.. ده مقلب بجد؟!! أنا يتعمل فيا مقلب؟!".
 
لم أتصور يومًا أن أقع فريسة لأحد المقالب الرمضانية، ولا أبالغ حين أقول إنني كنت أتمنى أن يحاول أحدهم ذلك؛ بل كنت أدعي دومًا أنني سوف أفعل الأفاعيل بمن تسول له نفسه أن يوقع بي، ولطالما عاندت من حولي مؤكدًا صعوبة أن أقع في ذلك.
 
من يعرفني سوف يفهم كلامي بالطبع، فأنا من عشاق عمل المقالب في الأصدقاء والمقربين، وأحيانًا الغرباء الذين أتوسم فيهم أن يستوعبوا المقلب وألا تحدث مشكلة.
 
لكنني أعترف أنني سعيد بهذا المقلب، وأتمنى أن تتحول جميع برامج المقالب، وما أكثرها الآن، إلى برامج هادفة تتناول سلوكيات سلبية في المجتمع، وتظهرها وتتعرف على ردود أفعال الجماهير تجاهها، وآرائهم فيها حتى يمكن معالجتها.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة