راديو الاهرام

نجلاء محفوظ تكتب: جوجول .. صاحب "المعطف" ورائد الواقعية

5-3-2022 | 11:10

يمر البعض بالحياة؛ فيترك الكثير ويخلد ذكراه؛ وهذا ما فعله جوجول الذي ولد في أول أبريل عام 1809 ومات في 4 مارس 1852؛ وعاش حياة حافلة قصيرة بالإبداعات، وهو القائل: دائما فكر بما هو مفيد وليس بما هو جميل؛ فالجمال يأتي من تلقاء نفسه، وقدم الفائدة والجمال لنفسه وللأدب..
 
بدأ بكتابة الشعر ونشر ديوانًا على نفقته الخاصة، ولم يحقق أي نجاح فتخلص من النسخ التي طبعها، وأقسم ألا يكتب الشعر مجددًا والتزم بذلك؛ وإن "تسربت" روح الشعر برواياته.
 
قام بتدريس أدب العصور الوسطى بالجامعة ولم يجد شغفه به فتركه وتفرغ للأدب.
 
دخل الأدب الروسي؛ والعالمي مرحلة جديدة غير مسبوقة بعد رواياته خاصة "المعطف"؛ فهو مؤسس الواقعية الحديثة الروسية وأول أديب يكشف عيوب المجتمع الروسي..
 
قال الأديب الروسي الأشهر دوستوفيسكي: "جميعنا خرجنا من معطف جوجول"؛ في إشارة لأهمية هذه الرواية البديعة الكاشفة عن أكثر المشاعر الإنسانية عمقا والنابضة بالحياة وتستولي على عقل وقلب قارئها وتجعله يتعاطف بشدة مع بطلها..
 
في المعطف يجعلنا جوجول "نرى" بطل الرواية وهو يتحرك ونستمع لدقات قلبه ونتعايش معه؛ هو موظف حكومي بسيط يرتدي معطفًا قديمًا مهترئ بكل أجزائه، ولم تعد تصلح أي محاولات لإصلاحه أو إخفاء تمزقاته؛ ويتعرض للسخرية الدائمة من زملائه بالعمل..
 
ويتجاهلهم ويمضي بحياته حتى يعجز عن مواصلة التجاهل "ويضطر" للتفكير الجدي بشراء معطف جديد؛ فتتغير حياته ويرتبك نفسيًا وماديًا؛ فلا يملك المال، ويجبر نفسه على الادخار من راتبه الضئيل والذي بالكاد يكفيه، ويشجع نفسه بأن الأمر يستحق؛ فشراء معطف جديد سيحميه من ألسنة الناس أكثر مما يحميه من قسوة البرد القارس، والذي يعجز معطفه القديم عن حمايته منهما سويًا..
 
كان يهدهد أوجاعه لتهدأ "ويبشرها" بالبراح الذي سيتنفسه فور حصوله على المعطف وكيف ستتبدل حياته للأبد..
 
جاء اليوم الموعود؛ وارتدى المعطف الجديد وذهب لعمله وتلقى التهاني ودعاه زميل لحفلة ببيته فذهب سعيدًا وبعد منتصف الليل غادرهم؛ وقابله لص ضربه واستولى على معطفه وتركه ملقى على الأرض بحالة إغماء..
 
انتكست أحلامه ثم تماسك بصعوبة؛ وذهب لمسئول بارز سعيًا لمساعدته لاسترداد معطفه، فرفض الأخير ولم يكتف برفض بمساعدته بل تمادى بإهانته، فأصيب بالحمى وبالهذيان حول معطفه المسروق حتى مات..
 
لم يمت كمدًا على المعطف فقط؛ وإنما على حياة بائسة لم تمنحه أبسط ما يتمناه إنسان؛ فقد تعرض للاضطهاد بعمله وللفقر ولضيق الحال وللاستهزاء القاسي لارتدائه المعطف القديم طويلًا حتى أصبح رثًا مهلهلًا.
 
لم يسمح جوجول لبطله بالموت مهزومًا؛ فمنحه العودة للحياة كشبح يطارد أصحاب المعاطف ويستولي عليها، وخاصة معطف المسئول الذي خذله وكان يستطيع مساعدته.
 
فضح جوجول في "المعطف"؛ فساد الحكومة آنذاك؛ وفساد مشاعر الكثيرين وتعاملهم مع البطل بما يرتديه وليس كإنسان، وكيف لم يتعاطفوا مع فقره وحقه المشروع بالحصول على معطف جديد؛ وأضافوا لمعاناته من الفقر أوجاعًا جديدة لتعمدهم النيل منه.
 
من قصصه البديعة؛ "مذكرات مجنون" والتي يغوص بحياة مجنون، وكيف يحيا وما الهواجس التي تسيطر عليه وكيفية تعاملها معه بأسلوب سلس وبرؤية ثاقبة لعقل ونفس المجنون.
 
من أعماله الشهيرة؛ مسرحية "المفتش العام" التي كتبها وهو بالخامسة والعشرين من عمره وتوضح مساوئ البيروقراطية بروسيا وناله هجوم حاد بسببها؛ واضطر لمغادرة روسيا والإقامة بروما لسنوات بالمنفى.
 
مع الأسف؛ رغم موهبة جوجول الرائعة ونجاحاته بالأدب إلا أنه "ترك" نفسه تحت سيطرة من تسبب "بتدميره" ولم يسارع "بالفرار" كما كان يجب أن يفعل، وأن "يتشبث" باليقين بأنه كان يفعل الصواب..
 
فقد تعرض جوجول لأزمة نفسية حادة إثر توثق علاقته براهب أقنعه بأن كتاباته تحتوي على الخطيئة، وجعله يكابد الخوف بسببها؛ وابتعد بعدها عن الكتابة وعن حياته التي اعتادها وتدهورت حالته النفسية كثيرًا، وفي 24 فبراير عام 1852 أقدم على حرق بعض مخطوطاته التي قام بتأليفها، ومنها الجزء الثاني من رائعته الخالدة الأنفس الميتة، وامتنع عن تناول الطعام حتى مات بالرابع من مارس بنفس العام.
 
 ترجمت أعماله لمعظم لغات العالم وتحولت لأفلام ومسرحيات عالمية للصدق والعمق في تناوله لموضوعاتها تمتزج فيها التراجيديا بالكوميديا أحيانًا وللروعة برسم الشخصيات بدقة وبواقعية.
 
تكلم حتى أراك قالها أرسطو؛ فلنتأمل ونتعلم من بعض أقوال جوجول:

  • لا يفيد لوم المرآة إذا كان الوجه معيبًا.
  • بعض الناس يعيشون بالحياة ليس كشخصيات مستقلة بذاتها؛ بل كالبقع واللطخ على شخصيات الآخرين.
  • بعض الناس يعتبرون بعض الأمور غير مهمة على الإطلاق؛ بينما يراها غيرهم مهمة جدًا.
  • الحديث الظريف أشهى من أطباق الطعام  بالعالم.
  • الإنسان كريم جدًا باستخدام كلمة أحمق ومستعد لإلصاقها بجاره عشرين مرة يوميًا، ويكفيه أن يكون وصف الأحمق واحدة من صفاته العشرة ليصفه بالأحمق وينسى التسعة الجيدة.
  • كلنا لدينا عيب استثناء النفس من ارتكاب الأخطاء، وبذل أقصى الجهد للتفتيش عمن يلومه وتحميله تبعة أخطائه؛ قد يكون خادمًا أو موظفًا صغيرًا أو زوجة أو  كرسي.
كلمات البحث
اقرأ أيضًا: