قراءات سياسية.. الإعلام سلطة عابرة للقارات.. تقاسيم على أوتار المجتمع.. ثقوب في الرداء التعلمي.. نظرات في عالم الاقتصاد.. ومضات ثقافية.. تلك هي عناوين فصول السفر الأول للكاتب العماني والمفكر الخليجي الدكتور أنور بن محمد الرواس، وقد تناولت في الجزء الأول ثلاثًا من الدلالات التي تشي بها أطروحته التي وضعها على رفوف المكتبة العربية قبل أيام (جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع).
وأما الدلالة الرابعة: فإن كل فصول هذا الكتاب تجرى حوارات بين الأجيال التي تتسم علاقاتها ببعضها البعض بمبدأ التواصل والتسلسل، فكل جيل يأخذ ممن سبقه، ويمهد لمن يلحقه، بمعنى أنه يحشد أكبر قدر من المعلوماتية للظاهرة التي يعالجها، بأقل قدر من الكلمات والعبارات، حيث العمق في تناول القضايا، والوضوح في طرائق التعامل مع إشكاليات المجتمع، والبساطة في طرح المشكلات التي تفرزها طبائع الحراك المجتمعي.
الدلالة الخامسة: أن د. أنور الرواس يمثل «حالة فكرية» ترمز إلى وجود«المفكر العماني» الذي يتجاور مع أقرانه المشتغلين بالفكر وشئونه وشجونه، فعلى الرغم من كثرة وتكاثر المبدعين في الآداب والفنون، فإن وجود «مفكرين» ليس بالكثير ولا بالذي ينبغي أن يكون، في مقاربة هذا السياق ومن ثم تتجلى أهمية صدور كتاب فكري، وأكثر من كتاب، يتخذ من الفكر سبيلا، يمثل فكرا على واقع، كمفكر يتجاذب أطراف الحوار مع هذا الواقع، منتقدا ومضيئا ومنذرا ومبشرا في آن واحد.
الدلالة السادسة: أن مشروع د.أنور الرواس الفكري يؤكد مدى حاجة المجتمع إلى الفكر ورجل الفكر، ويكشف الدور الذي يلعبه المفكر في خدمة المجتمع وإنارة محيطه قدر الإمكان، باعتبار أن مرايا الفكر هي أقوى المرايا، وكل مرآة منها لها طريقتها ولها خصوصيتها في عرض الصورة، ومن ثم فكل أفكار ورؤى كاتبنا د.أنور الرواس، إنما هي مثل الشمعة التي بقدر ما تضيء مساحة بنورها بقدر ما تكشف المساحة الأوسع من الظلام، وهذا هو شأن القلم الحر الذي يتنفس برئتي الألم والأمل.
*
يختزل العنوان عند كاتبنا د. أنور الرواس جوهر النص عبر التكثيف والتمثيل، ليس فقط لكونه قيمة إشهارية وتعيينية، بل أيضًا باعتباره قيمة جمالية وفكرية تحمل الكثير من جينات النص، ومن ثم استخدم الكاتب مائتي عنوان في كتابه، وصنفها تحت ستة فصول تراوحت بين السياسي والإعلامي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي، فجاء عنوان كل فصل، ليفكر لمجموعة الرؤى التي تطرحها مقالاته، وهنا يتبدى حرص الكاتب في وضعية عناوين الفصول ذاتها، كعناوين يمكن وصفها بأنها «بؤرية» فكل عنوان يبدو كأنه يفكر لنصوصه في كليتها، فيغدو بمثابة عملية تأشير لها، واختزال ما فيها من أفكار ورؤى، فيجعل من العنوان معادلا لأصوات المقالات، إذ يلقي عنوان كل فصل بظلاله على أجواء عناوينه الداخلية فيسمها بالقصدية، حتى لتبدو كل مجموعة من المقالات وكأنها نص متكامل مترابط ينضوي تحت العنوان المنتقى بوعي اختياري وإرادة فنية، وباتخاذه موقعًا إستراتيجيًا.
يحمل الفصل الأول «قراءات سياسية - 28 مقالا» وهي ليست مراجعات سياسية مؤقتة أو موسمية بقدر ما هي رؤية فكر سياسي يؤصل ويحلل ويكاشف.. ويفرد الفصل الثاني منظومته الفكرية لقضية «الإعلام السلطة العابرة للقارات- 33 مقالا»، بينما يعزف الفصل الثالث مجموعة من التقاسيم على أوتار المجتمع يبلغ عددها 36 مقالا، وهي عزف منفرد أحيانًا وعزف جماعي أحيانًا أخرى، ويسلط الكاتب في الفصل الرابع الضوء النقدي على مجموعة من الثقوب في الرداء التعليمي، لا سيما في أجزائه الجامعية والأكاديمية، لعله يتخلص منها، ليبقى ناصعا وذلك في 28 مقالا، ويوغل كاتبنا بقلمه في بحر لجي يستدعي مهارة خاصة في السباحة، فإذا به في الفصل الخامس - وهو الأطول بين الفصول 53 مقالا - وضعه تحت عنوان «الاقتصاد بين الانفتاح والاحتكار» محملا بالثنائية والتقابل والتضاد أحيانا. ثم يتألق الفصل السادس بباقة من ومضات ثقافية عبر 19 مقالا، يبث فيها مؤلفنا خواطره وخطراته، وكأنها لحظات التنوير التي تربط الكاتب والكتاب بالقارئ والمتلقي عموما.
*
لست من أصحاب اتجاه استخلاص أفكار الكاتب، مفكرا ومبدعا ومنظرا، بشكل مدرسي، إيمانا مني بأن عملية التلقي هي في حد ذاتها عملية إبداعية وكتابية، وهي في العلوم السردية الحديثة صارت علما قائما بذاته، لاسيما بعد أن حاولت نظريات التلقّي تقنين جماليات وأدبيات خاصة بعملية القراءة.
وفى هذا السياق يدرك الكاتب الدكتور أنور الرواس أنه يخاطب جماهير القراء عبر الصحافة السيارة، الأمر الذى يجعل من المخاطب أو المتلقي محورا مشاركا للنص من ناحية، ومن ناحية أخرى يفرض على الكاتب استخدام «اللغة الثالثة» حيث السلاسة والوضوح، والدقة والصدق والاختصار والإيجاز، وصولا إلى المتلقي بالفكرة التي يريد إيصالها، فيكثف المعنى بأقل عدد من الكلمات، تحققا لإستراتيجية الإقناع والتأثير في المتلقي.
سيجد أن رؤية الكاتب السياسية تشتبك بالهموم الاجتماعية، والاثنتان تتشابكان بالمنظور الإعلامي وبالقضايا الاقتصادية، وبالعملية العلمية والتعليمية، لتتخذ نسبا تكاد تكون متساوية في الطرح والمعالجة، لاسيما أن المؤلف لا يتعامل مع الأحداث الموسمية والحوادث المؤقتة، بقدر ما يلجأ إلى التحليل وتعميق المنظور، وهو بذلك يكسر القشرة الصلدة التي تغلف المشكلة، وسيجد أيضا أن القضية الاجتماعية تشغل مساحة واسعة من هموم الكاتب، فقلمه مغموس بها، لأنه ابن واعٍ لمجتمعه، وسيلاحظ أيضا أن المنظور الإعلامي، هو المنظور الأكثر اتساعا، باعتبار أن الإعلام أحد أكبر عناوين هذه الحقبة من عصرنا، وأحد السيميائيات الكبرى للإجابة عن السؤال الحائر والمحير: في أي عصر من التاريخ نحن نعيش.
وهو في كل هذه الأطروحات يحمل من التوتر والتناقض ما يجعله يضع الواقع الاجتماعي موضع المساءلة، باقتحام دوائر غير سطحية ولا مسطحة، وطرح ثقافة الأسئلة في اللامفكر فيه بجسارة وجرأة ورؤية تصطدم بواقع إنساني عالمي مشحون بالتعارضات والاختلافات يصحبها الشعور بالحاجة إلى إنهاء هذا الخلاف وإقناع الآخرين بوجهة النظر التي تتبناها الرؤية، تعويضا عن انعدام التوازن في الواقع الراهن بين الإنسان وعالمه الذي يعيش فيه بخلق صورة جديدة له.
* ونتواصل مع سردية «جدلية المواطن والسلطة» إن كان في العمر بقية.