راديو الاهرام

محمد إبراهيم الدسوقي يكتب: قراءة في عقل بوتين

26-2-2022 | 19:25

عمليًا، بدأ الدب الروسي وبشراهة في التهام العصفور الأوكراني الضعيف مهيض الجناح، الذي حسب لوهلة أن بمقدوره الإفلات بسلام من بين أنيابه الغليظة المتوحشة، وتخلى الجميع عنه بخسة ونذالة ليست بجديدة على أصحابها، تاركين إياه لقمة سائغة في فم الدب الروسي الشرس، بعد أن صدق قادة كييف الوعود الكاذبة والخادعة من الغرب والولايات المتحدة بأنهما يحميان ظهره المكشوف، وعليه ألا يخشى أي شيء، ويتابع رفع راية التمرد والعصيان في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العنيد وواثق الخطى، الذي مضى قدمًا في تنفيذ تهديده باجتياح أوكرانيا دون أن يردعه رادع ولا زاجر.
 
استيقظ الأوكرانيون على الحقيقة المرة، ووجدوا أنفسهم هاربين ومشردين يبحثون عن مكان آمن داخل بلادهم، أو خارجها، وانهمرت على رؤوسهم القنابل والقذائف والصواريخ، وجرى تدمير جزء معتبر من بنيتهم التحتية، وحرموا مِن الماء والكهرباء في شتاء قارس لا يرحم الموجودين في العراء وبالمنازل المهدمة، ولم يجنوا من المجتمع الدولي المتخاذل سوى بيانات جوفاء تندد بالغزو الروسي، وتتوعد بمعاقبة موسكو بفرض سلسلة مطولة من العقوبات المغلظة عليها.
 
وماذا بعد؟!
مرحليًا، ستزيد وتتعمق مأساة ومتاعب الأوكرانيين إنسانيًا واقتصاديًا وعسكريًا، خلال الأسابيع المقبلة، إلى أن يُقرر سيد الكرملين توقيت وشروط وقف إطلاق النار، والبدء في ترتيب الوضع بأوكرانيا بصيغة تتوافق وتتناسب مع ما يريده بوتين، وأن تكون دائمة وليست مؤقتة، وأن تدخل الحظيرة الروسية، وتبقى فيها ساكنة دون إزعاج ولا تململ، وترضخ تمامًا لما تبغيه وتشتهيه روسيا.
 
وإن بحثنا عما يدور في عقل بوتين، وذاك ليس بالمسألة السهلة، بعد أن غزا أوكرانيا، ويقف على طرفي نقيض مِن معظم بلدان العالم ومؤسساته الدولية، فإنه بلا شك يحس بقدر معقول ولا بأس به من الرضا والارتياح، لتحقيقه بعضًا مِن أهداف عملياته العسكرية في الأراضي الأوكرانية، ونجملها فيما يلي:
 
أولًا: أن مَن يجرؤ على الاقتراب، أو المساس، بالمصالح العليا، والأمن القومي لروسيا، لن يجد في انتظاره سوى القوة الغاشمة بمفهومها الشامل وليس المجازي، وأنه لا مجال ولا تسامح مع مَن يعبث بالفناء الخلفي لموسكو، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.
 
ثانيًا: أن هناك حقوقًا تاريخية لروسيا في أوكرانيا يجب الاعتراف والإقرار بها مِن قِبَل المجتمع الدولي، وأنها ستكون حاضرة، حينما يجلس الفرقاء المتصارعون على طاولة المفاوضات، ولن تتنازل عن شبر واحد منها، وأن مَن سيضغط في هذا الاتجاه سيجد نفسه أمام حائط من الفولاذ غير قابل للاختراق.
 
ثالثًا: القضاء على القوة العسكرية الأوكرانية، وأن تصبح مستقبلًا مجرد قوة رمزية منزوعة الأنياب، وهو يعلم أنه لا يوجد نسبة وتناسب بين الجيشين الروسي ـ ثاني أقوى جيوش العالم ـ والأوكراني ـ يحتل المرتبة الـ ٢٢ عالميًا ـ وأن الغلبة وكفة الميزان سترجح كفة جيشه، لكن رسالته للخارج أكثر منها للأوكرانيين.
 
بالإضافة إلى رغبته في التخلص نهائيًا مِن خصمه اللدود المشاكس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي ارتمى في أحضان الغرب وأمريكا وحلف شمال الأطلنطي "الناتو"، متوهمًا أنهم قد يدخلون في نزاع مسلح ومواجهة مباشرة على الأرض مع روسيا، لكنه أفاق من أوهامه ليصدمه إعراضهم الجماعي عنه، وتأكيدهم أنهم لن يتدخلوا عسكريًا لإنقاذه ووطنه من المصير المظلم المحتوم، وحاليًا فإنه متوار عن الأنظار وسيظل كذلك، إن بقي على قيد الحياة، وربما يكون من بين شروط وقف القتال استبعاده من الكرسي الرئاسي، الذي وصل إليه عبر صناديق الاقتراع، واللعب على وتر أنه المسئول الأول عما آلت إليه الأوضاع من تدهور في أوكرانيا.
 
رابعًا: إن معركة أوكرانيا تكتب السطور الأولى لنظام عالمي جديد، يُغلق إلى غير رجعة صفحة انفراد الولايات المتحدة بتشكيله وهندسته، وفقًا لما تحدده وعلى الآخرين السير خلفها بدون اعتراض، وأن بشائر النظام المرتجي سيكون ثنائي القطبية وليس أحاديًا، مثلما اعتاد وألف العالم، منذ نهاية الحرب الباردة، وأن روسيا ستكون حاضرة رأسًا برأس مع أمريكا وندًا مساويًا لها، وقد تتقدم عليها في تسيير الشأن الدولي مستغلة ما تعانيه من تراجع وانسحاب في عهد إدارة جو بايدن غير الحاسمة، التي كان التخبط والتردد سمة بارزة في سكناتها وتحركاتها، وهو ما جعل روسيا غير عابئة ولا مكترثة بتهديداتها طوال فصول الأزمة الأوكرانية، ودرست بإمعان رد الفعل المنتظر مِن واشنطن وحلفائها الغربيين، والمبني على الانخراط في معارك كلامية، وعقوبات لن تستمر للأبد، ولن تكون بلاده وحدها المتضررة من توابعها.
 
وبالفعل فقد كان من بين أبرز ما تمخض مِن تداعيات الأحداث في أوكرانيا أن مَن يحتمي بأمريكا والغرب والمستجير بهما لن يحصد سوى الخيبة والحسرة، وأن امتلاك أسباب القوة في جانبها الاقتصادي والعسكري والعلمي والسياسي، واستقلالية القرار الوطني، كفيل بضمان مصالح البلاد العليا، وحمايتها ودرء المخاطر عنها ـ مهما كان حجمها ـ ومجابهة التحديات الإقليمية والدولية الماثلة بصلابة وثبات واحترام، وستقيم جدارًا عازلًا يُحول دون الرضوخ لأي ضغوط وإملاءات، حتى لو كانت آتية مِن القوى العظمى التي لا تعرف ولا تقبل كلمة "لا"، فبوتين - نظرًا لخلفياته المعروفة للكافة - يُدرك أن عالمنا لا يفهم سوى لغة واحدة، هي القوة.
 
إن معركة أوكرانيا لم تنته ولم تحسم بعد، لكنها في كل الأحوال ستتحول لنقطة فاصلة تكتب نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، إيذانًا ببزوغ فجر نظام دولي جديد، ولن تحتكر أمريكا بمفردها تشييده، وبوتين يعد العدة لهذه اللحظة الفارقة مِن مدة طويلة، ويؤمن إيمانًا راسخًا أن روسيا مؤهلة وقادرة على أن تعيد صياغة النظام الدولي، ويتسلح بالتاريخ وأشياء أخرى لإثبات أحقيتها، وتعزز الصين من توجهاته، وتجهز نفسها لمكانتها فيه، وحتى ذلك الحين، فإن المجتمع الدولي عليه الاستعداد لما بعد صمت المدافع، لإعادة بناء ما خربته آلة الحرب الباطشة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة