لطالما ذكَّرتني باريس بالعملات المعدنية ذات الوجهين.. فهي في السياسة عكسها في الثقافة، وهي في الصيف غيرها في الشتاء، ورجالها أجلاف قساة بخلاف الباريسيات الناعمات الرقيقات، وشوارعها مزيج من التراث التاريخي العتيق والمعاصرة الزاعقة بأحدث خطوط الموضة، وشعبها ثائر دائمًا ضد حكومته فهما دائمًا على خلاف، وفرنسا الاستعمارية نقيض فرنسا الحرية، وفيما أرى فرنسا جنة رآها بيرم التونسي جحيمًا وعذابًا.
زرت فرنسا أكثر من مرة.. الأولى بدعوة من السياسي المصري الفرنسي جمال هريدي المقيم في شمال باريس وقضيت نحو 3 أسابيع متصلة أشاهد بشغف وانبهار المتاحف والبيوت القديمة والبشر من كل لون وديانة.. أما الثانية فبصحبة عالم الآثار الدكتور زاهي حواس، زرنا خلالها معرض الآثار المصرية الغارقة.. والثالثة بدعوة من الفنان التشكيلي عبدالرازق عكاشة الذي عرفني على الفنان المصري العالمي سمير رافع.. ثم كانت الزيارة الأخيرة في العام 2013 بدعوة من مهرجان أفينون.
فرنسا بلاد الدعاية والكتب والروايات والحكايات.. بلد صغير المساحة إلا أنها صنعت أمجادها وتاريخها العريض من نابليون إلى ماكرون إلى سارتر وألبير كامي وليفي شتراوس وغيرهم.
فمتى تكون عودتي لمعشوقتي ذات الوجهين؟ وكيف؟
أكرهها.. أحبها
كأي مسلم غيور على هويته انتابني غضب هائل ضد تلك الازدواجية التي تعاملت بها فرنسا مع مسلميها إثر أزمة الرسوم المسيئة لنبينا العظيم «صلى الله عليه وسلم»، فإذا بفرنسا بدلا من التوقف والاعتذار، تسترسل في إصدار قوانين مضيقة للحرية في بلد الحريات، وفي ظني أن مثل هذا الخطأ لابد له أن يستقيم عاجلًا أو آجلًا، لأن السياسة في فرنسا متلونة وتتسم بالمرونة الكافية لإصلاح أخطائها.
المسلمون في فرنسا أقلية بنسبة تصل إلى نحو 6% أي نحو عُشر نسبة الكاثوليك، ورُبع نسبة اللادينيين. والمعروف عن المسلمين في فرنسا أنهم بعيدون كل البعد عن أي تشدد، فلماذا جاءت القوانين المتشددة ضدهم؟! إنها بقايا النعرة الاستعمارية في عروق بعض قادتها, وينبغي لها أن تزول.
من أجل أن تبقى فرنسا بوجهها الساحر الآخر الذي رأيته وأعجبت به كغيري من زائريها الذين يزيدون عن 80 مليون سائح سنويًا، فهي تتفوق على أمريكا والصين كمزار سياحي.
ليس برج إيفل وحده.. فهناك عشرات المزارات السياحية التي لا تكفيها زيارة واحدة. إذ تتوزع تلك المزارات بين مدن فرنسا الكبري.. وإذا كانت باريس تضم متحف اللوفر والشانزليزيه وديزني لاند الباريسية فإن قرى فرنسا الخلابة ومدنها الصغرى تحوي نوعًا آخر من السحر الهادئ غير الصاخب، وهناك زائرون يفضلون الاستمتاع بالريفييرا أو مصايف نيس وشواطئها.
فرنسا حافلة بالمشاهد والمناظر الساحرة في كل ركن بأي مدينة أو قرية، من قصر فرساي إلى قوس النصر إلى فنادقها ومسارحها ومتاحفها وقلاعها ومتنزهاتها وحدائقها النادرة، فلا عجب أن تكون القبلة السياحية الأولى في العالم.
غير أن فرنسا بهذا الوجه المؤقت أجمل منها بوجهها الآخر الدائم، ذلك الوجه الذي رآه بيرم التونسي وتقلب في عذاباته، واضطر لكسب قوته بالعمل المرهق قليل الأجر، وكره فرنسا كما لم يكره بلدًا مثلها، وكانت عودته لمصر يوم عيد.
بين السياسة والثقافة
نحن من أكثر الشعوب تأثرًا بفرنسا وثقافتها.. ولا يزال كثير من النخب الثقافية والسياسية لدينا بمزاج وهوى ولسان فرنسي، فنابليون لم يأت بقوات عسكرية فحسب، وإنما بعثة علمية كاملة من الباحثين والدارسين في شتي المجالات، لقد تعلمنا منهم وتأثرنا بهم قبل أن يرحلوا ويتركوا لنا إعجابًا ممزوجًا بالحنق.
لابد لك كمتابع وقارئ للتاريخ أن تندهش من تاريخ هذا البلد الصغير نسبيًا بحجم يزيد قليلًا عن نصف مساحة مصر وتعداد سكاني يصل لنحو 66 مليون نسمة ويتمتع بكل هذا الثقل السياسي والاقتصادي والعسكري الكبير، وقد تحقق لها ذلك بضريبة باهظة بلغت نحو 4 ملايين فرنسي راحوا ضحية حروب فرنسا التوسعية وثوراتها ضد النظام الملكي.
أما عن النشاط الثقافي والأدبي والفني في فرنسا فحدث ولا حرج.. فخلال حقب التاريخ المختلفة استُخدم الطراز الفرنسي في الرسم والموسيقى والمسرح وأشكال فنية أخرى نموذجًا في البلاد الأوروبية الأخرى. وكان الفنانون الفرنسيون منذ العصور الوسطى، ومنهم المعماريون ومؤلفو الموسيقى والأدباء من بين قادة الثقافة في أوروبا والعالم.
ومنذ عصر النهضة إلى وقتنا هذا نشأت من قلب فرنسا اتجاهات ومدارس فنية وأدبية وفلسفات تأثر بها العالم كله، منذ فولتير وديكارت وموليير وراسين وجان جاك روسو إلى فكتور هوجو وجان بول سارتر وألبير كامو.
والمصريون كانوا من أكثر الشعوب تأثرًا بالثقافة الفرنسية وما زالوا.. ورغم كل شيء تتمتع العلاقات المصرية الفرنسية المعاصرة بتميزها وتناميها المستمر..
السهم الصاعد
لفظ فرنسا اشتُقَّ قديمًا من كلمة فرانك المحرَّفة عن لفظ "الفرنجة" العربي، والدول الفرانكفونية إذن هي دول الفرنجة! وقد تولى بطرس بطرس غالي منصب الأمين العام للمنظمة الدولية الفرانكفونية في الفترة من عام 1998 وحتى عام 2002.
الفرنسيون لديهم ولع خاص بمصر وتاريخها الفرعوني، ومنذ ساهمت البعثة العلمية المرافقة لنابليون في فك طلاسم حجر رشيد والتعاون قائم بين الدولتين في مجال الآثار، وهو جزء من تعاون ثقافي واسع المدى يشمل مجالات التعليم والبحوث والتقنيات والتبادل الثقافي والفني.
وفيما يبدو أن سهم التعاون الاقتصادي بين البلدين آخذ في الصعود أكثر، خاصة في أعقاب الزيارة التي قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي لفرنسا.
لقد شهدت مصر بعدها توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات النقل والتعاون الدولي من أهمها مشروع تنفيذ وإدارة الخط الثالث للمترو.
وفي ظني أن السهم الصاعد ربما يميل في الفترة القادمة باتجاه الثقافة والتبادل الفني والأدبي، فلا شيء يمكنه تقريب الدول والشعوب مثل تلك الأنشطة ذات الطبيعة الاجتماعية.
حنين باريسي
في زياراتي لباريس كنت أرى وأسمع وأتذوق بطريقة مختلفة.. نعم، هناك سحر خاص في أجواء فرنسا لا يدركه إلا من طاف وقارن واستشعر الفارق.. ونعم، هناك نوع من المعرفة لا تدركه من مجرد قراءتك لكتاب جغرافيا أو مشاهدتك لفيلم وثائقي عن بلد ما، بل لابد لك من أن تشاهد بنفسك لتعرف وتدرك السر وراء انبهار غيرك بما سيدهشك أنت لو كنت مكانه.
ولو كنت مكاني لابد أن ينتابك الحنين إلى العودة إلى جنة من جنان الأرض ودعتها يومًا وقد بقيَت في ذاكرتك كأفضل مكان زرته ولم يبق معك إلا عطره.
[email protected]