في بداية ثمانينيات القرن الماضي؛ أتذكر طلب إحدى الجارات الفاضلات كتابة خطاب؛ لترسله لقريبة لها؛ في محافظة قريبة من القاهرة؛ وأتذكر حرصها على أن يكون خطي واضحًا وجميلًا، حتى تتمكن المرسل إليها من القراءة بيسر.
وقتها؛ لم تكن كتابة الخطاب شيئًا غريبًا؛ لأنها أمر معتاد؛ فلم تكن خطوط التليفون الأرضي قد انتشرت؛ ففي بعض المناطق؛ قد يكون في دائرة عدد من العقارات الكبيرة؛ يكاد يكون هناك تليفون واحد؛ وكان صاحب ذلك التليفون مهمًا لكل جيرانه؛ لأن رقمه معهم؛ فإذا احتاج أحد من أقاربهم التواصل معهم؛ كانوا يطلبون ذلك الجار صاحب التليفون؛ ليوصل الرسالة؛ في حالة الأخبار العاجلة؛ التي قد لا تحتمل إرسال التليغراف؛ مثل حالات الوفاة في أماكن بعيدة عن الناس!!
تطورت وسائل التواصل؛ حتى أمست كتابة الخطابات طريقة قديمة مكروهة؛ حتى التليغراف؛ تحول لأداء مهمة واحدة فقط تقريبا؛ خاصة بالمواساة؛ أما التليفون الأرضي؛ فأضحت حاجته الوحيدة في وجود خط للإنترنت وفقط؛ فقلما يمكن أن يتواصل الناس من خلاله؛ بعد الانتشار الكبير جدًا للهواتف المحمولة؛ وللتسهيلات التي تعطيها شركاتها لمشتركيها للتواصل من خلاله.
وهنا نلحظ ضعف وسائل ترغيب شركة التليفون الأرضي في جذب الناس للتواصل من خلالها؛ وركونها للأمر الواقع دون تعديل تلك السمة؛ مع استمرار تحصيل الاشتراكات ربع السنوية؛ وكأن ذلك هو المبتغى.
ووصل التطوير لوجود منصات اجتماعية متنوعة؛ تتيح لأعضائها التواصل بالصوت والصورة؛ دون التقيد بالمكان والزمان؛ فيمكن لمشترك مقيم أقصى الشرق التواصل مع آخر مقيم في أقصى الغرب؛ وهكذا؛ كل ذلك بكلفة تكاد لا تذكر؛ مقارنة بكلفة الماضي البعيد؛ التي كانت باهظة للغاية.
كل تلك الأمور جعلت التواصل المباشر؛ أشبه بالحلم صعب المنال؛ رغم تقدم وسائل التنقل وتنوعها؛ بدرجة قربت المسافات بين الناس؛ إلا أن التكنولوجيا المتطورة للغاية؛ تكاد تكون فرقت الناس؛ وباتوا غير منشغلين بالتواصل الحقيقي؛ وهي حالة أوجدت جفاء غريبًا في العلاقات بين الناس؛ إن أقرب الأصدقاء إلى قلبي لم أره منذ أكثر من عامين؛ رغم التواصل الصوتي المتقطع؛ وبتنا نعزي ذلك لأسباب الانشغال بوقائع الحياة؛ التي باعدت بين المقربين؛ فما بالنا بغيرهم؟!!
حتى الجيران في بناية واحدة؛ مهما كبرت وسعت عددًا كبيرًا منهم؛ بات لهم جروب للتواصل وقلما يلتقون؛ إلا في الحالات المهمة الطارئة؛ أما أقارب الدرجة الأولى كالأب والأم؛ فحدث ولا حرج؛ نسمع كثيرًا عن حالات من الجفاء والتباعد بشكل مزعج وغريب؛ وتركنا لوسائل التواصل الاجتماعي المتقدمة السبيل للتواصل الجاف؛ الخالي من مشاعر الود والألفة!!
يبدو أننا بتنا نفضل العلاقات الإلكترونية عن العلاقات المباشرة؛ مما سبب التباعد الموجود الآن؛ وقد يكون مقبولا بشكل استثنائي؛ لكن أن يكون ذلك هو الوضع الطبيعي؛ والعكس هو الاستثناء؛ فلا بد من وقفة من النفس؛ لمراجعة ما يدور حولنا.
حتى حالات الوفاة؛ أمست كتابة تعليق على صفحات الفيسبوك؛ بديلا للتقدم للمشاركة في المواساة بشكل ملفت للنظر؛ إننا نهيل التراب على علاقاتنا المتنوعة والمهمة؛ التي تحتاج لتواصل مباشر وحقيقي على كافة المستويات؛ دون أن نعي أننا نجافي أنفسنا ونتباعد دون مبرر منطقي.
حالات التباعد كثيرة وما يمكن أن نرويه عنها أكثر؛ ولكنها حكايات مؤلمة؛ ترسخ لفكر العقوق خاصة بالآباء؛ ووسائل التواصل حبلى بحكايات محزنة للغاية عن أفعال وقطع للأرحام يندى لها الجبين.
لا أعرف على من نلقي اللوم؛ هل على اعتمادنا على تواصل أجوف لا يسمن ولا يغني من جوع؛ أم على التطور التكنولوجي المذهل؟
في كلا الأمرين؛ أمسى التواصل فارغًا؛ لا يحتوي أي مضمون؛ تواصل شكلًا موجود وجوهرًا مقطوع؛ فقد وصلنا لحالة التواصل المنقطع؛ وبات علينا استعادة علاقاتنا الجميلة الممتلئة بالدفء والحنين؛ ففيها علاج لأمراض كثيرة؛ أهمها كسب رضا الوالدين؛ ويا له من مكسب كبير جدًا؛ وأقلها؛ استعادة نفوسنا لسلام افتقدناه كثيرًا؛ أثر بشكل سلبي على تعاملاتنا؛ حتى أضحت جافة باردة.
[email protected]