Close ad

د. مجدي العـفيـفي يكتب: جدلية المواطن والسلطة بين النار والنور (1 - 3)

23-2-2022 | 08:44

تؤكد تجربتي الصحفية المدثرة بالفكر والتأمل، والمشبعة بلغة الأعماق البعيدة في فهم جوهر الإنسان والزمان والمكان، كعوامل ثلاثة حاكمة في التطور الإنساني، أن منطقة الخليج - خاصة في مدنها التي تجادل الزمن، تستند بحاضرها إلى حضارة عريقة، وجذورها الأصلية والأصيلة ليست في الهواء، وأنها كمنطقة حيوية في كينونتها تكسر الصورة التقليدية المبتسرة التي روج لها المغرضون، لا سيما من يسمون «المستشرقون الجدد»، وهم يتوارون خلف أقنعة ذات مآرب أخرى، من أن الخليج ليس إلا حقول طاقة وآبار نفط، وقد ضرب الحقد على سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم، ولا تزال عليها أكنة فلا يفقهون ولن يفقهوا أن تجليات الروح الإنسانية هي الأقوى أثرًا، والأبقى عمرًا، وأن صوت الحضارة في المنطقة أصدق إنباءً وأنباءً وأن منظومة القيم والتحولات مستمرة في تشكيلاتها
*
أقول قولي هذا، وأنا أقرأ قراءة كاشفة، شرائح سٍفْر واحد من رجالات الفكر في الخليج، هو الدكتور أنور بن محمد الرواس، ليس فقط لأنه رجل إعلام يتحرك في نفس الدائرة التي نصهل فيها منذ حوالي نصف القرن.. وليس فقط لأنه أستاذ جامعي للإعلام السياسي بجامعة السلطان قابوس، بل أيضًا لأنه رجل فكر، لديه رسالة، وعنده رؤية ورؤيا، ويمتلك خطابًا وأسلوبية، ولديه الأدوات الفنية التي تترجم أطروحاته.
 
ورجل الفكر في منطقة الخليج هو تعبير يثير ظلالًا من التعجب والإعجاب أيضًا، ذلكم أن الخليج ليس نفطًا فقط؛ بل هو أكبر وأكثر من ذلك، بل هو من الذين ينتقدون الذات طبقًا لمقولة الشاعر البحريني عبدالرحمن رفيع (ما دمت نفطيًا فعزك لا يدوم) ولقد عرفت د.أنور الرواس كـ«شخصية» قبل أن أعرفه كـ«شخص» من خلال كتاباته في الصحف والدوريات، ومن خلال مشاركاته في الندوات العلمية والمؤتمرات الإعلامية والمنتديات السياسية، والملتقيات الأكاديمية هنا وهناك.
*
تجلت الانبثاقة الأولى في فكر د.أنور الرواس وهو يطل من شرفة الألفية الثالثة، فإذا قلمه يلتقط شواهد اجتماعية، ومشاهد سياسية، ونظرات إعلامية، وقضايا اقتصادية وهمومًا ثقافية، ويتجاوز الإطار القُطْري ليمتد منظوره إلى الفضاءات الإقليمية والعالمية مشتبكًا معها بعمانيته وعروبيته وشرقيته كمواطن عالمي، وككاتب له مرتكزاته في الرؤية والرؤيا، سطَّر فيها عشرات الدراسات والأطروحات والأوراق البحثية والمقالات في الصحف والدوريات، هي قطع من فكره ووجدانه، من نفسه الأمارة بالإعلام، كأستاذ للإعلام، وهو يحلق ويحقق، وما بين التحليق والتحقيق، كان التدقيق في ثنايا الأشياء وما وراء الأشياء، يقدم قراءات كاشفة للواقع بتداعياته، وما وراء هذا الواقع بتجلياته، يفتت اللحظة الراهنة المتعينة بتاريخيتها واجتماعيتها.
*
وضع د.أنور الرواس كتابه (جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في الدولة والمجتمع) في السلسلة التي تحمل عنوان (مكتبة أنور الرواس) واعدة بالعديد من المؤلفات، تكشف استقراءات المؤلف ومرئياته عبر كتابه هذا، أنه أحد الأشهاد على هذا العصر الذي تعيشه عمان الحديثة والمنطقة في كليتها، بشهادته العينية والفؤادية، لذا يعتبر شاهدًا وشهيدًا على العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطن، لاسيما أن رؤيته المطروحة تستبطن الأمور بمبدأ الرغبة ومبدأ الواقع معًا، وهو ما يجعل شهادته شهادة غير مجروحة، وأبدا لم تكن هذه المقالات المنثورة عبر زمان نشرها وحدات منفصلة، إنما هي تيار متصل من الأفكار المتولدة عن لحن واحد يعزفه د.أنور الرواس، بأنغام متعددة، مصدرها قيثارة فكرية متناسجة الأبعاد، متعددة المرايا، متجاورة الخيوط، متحاورة الخطوط.
 *
تتراءى لي أكثر من دلالة يبوح بها هذا الكتاب:
الدلالة الأولى: أن مؤلفه أستاذ جامعي، لم يشأ أن تظل أطروحاته حبيسة الحرم الجامعي، أو تبقى أفكاره رهينة أسوار الجامعة، بل هي تجاوز هذا الفضاء إلى فضاءات المجتمع، وهذه مقدرة لا تتوافر كثيرًا للأكاديميين، ومن ثم كان السعي من د.أنور الرواس إلى إجراء وصلات حوار، وتواصل مستمر بين الفكر المنهجي، وواقع الناس الذين من أجلهم يبث كتاباته، يعززه في ذلك أنه أستاذ للإعلام السياسي، والإعلام والسياسة لا ينفصلان بصورة أو بأخرى، لكن الدكتور الرواس يبدو حريصًا على تحقق مبدأ مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع بلاغته، وقدرته على الإبلاغ والتبليغ عبر الكلمة المقروءة، بعمرها الأطول، وتأثيرها الأقوى، وطاقتها الأغزر، ومقدرتها على استبقاء الجوهري والأصيل.
*
الدلالة الثانية: أن د.أنور الرواس يؤمن بأهمية دور الكاتب «فالكاتب والمثقف والأكاديمي جزء من هذا المجتمع، يقع على عاتقهم إبراز قضايا مجتمعهم للرأي العام من خلال الوسائل المتاحة، كالندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام المختلفة، ويدرك جيدًا أن «الكتابة في عصرنا الحالي أصبحت كالترياق لا يمكن الاستغناء عنها، ومن يرى عكس ذلك فإنما يحجب أفقه، ويسد عن نفسه منافذ المعرفة المتاحة» على حد تعبيره، ومثل هذه الرؤية لدور المثقف تنسجم مع كثير من الرؤى التي يطرحها رجالات الفكر في كل زمان ومكان، فالكتابة ليست وظيفة، والكاتب يؤدي دورًا لم يكلفه به أحد، طبقا لـ«إدوارد سعيد»، لكنه الإيمان بدور الكلمة ودور كاتبها، ولو يعرف الذين يكتبون أين تقع كلماتهم من نفوس الناس، لارتجفت الأقلام في أيديهم، وترددوا كثيرًا قبل أن يقولوا شيئًا، ولكن هذا لا يحدث إلا قليلًا، عندما تواجهنا الحقيقة فجأة ويرى الكاتب أن ثمة وجوبية للتغيير الذي «ينبغي أن يتوجه من حيث المبدأ إلى الإنسان وكل ما يتفاعل معه»، وأن الثقافة الحوارية في منظوره هي «الطاقة التي تفتت القيود حتى يزداد قبول الناس للتغيير كلما أتيحت لهم فرصة أكبر لمناقشته والتحاور بشأنه، على أن هناك مشروطية لإحداث التغيير إذ «لابد أن نغير ما في أنفسنا وأفكارنا ومناهجنا إلى الأفضل، مادام التغيير سنة من سنن الحياة، ولابد أن ننطلق بذلك من حاجاتنا وقناعتنا الذاتية، وإلا فإن التغيير سيأخذنا إلى الوراء بدلًا من التقدم نحو الأمام».
*
الدلالة الثالثة: وهي دلالة توثيقية إذ توثق مقالات الكاتب وأطروحاته للحراك المجتمعي والجمعي، وتسجل بشكل سردي التحولات والنقلات النوعية للمجتمع العماني الحديث، على أن الذي ينبغي ملاحظته أن الكاتب هنا لا يؤدي دور المؤرخ الذي يلتزم بالقواعد المتفق عليها في علم التاريخ وعالم التأريخ والمؤرخين، بقدر ما يعكس التحولات بمراياه المنبثقة من ذاته، كشاهد عيان على مجريات الأمور، وككاتب يتزاوج الحس والحدس لديه مع منهجيته وأكاديميته، وبأدواته الإعلامية المتباينة داخل النسق الواحد إذ يقول: «عندما نكتب عن موضوع معين أو ظاهرة ما، إنما نكتب بدافع وطني ليس إلا، والدافع هنا ليس من أجل التقليل من الآخرين أو البحث عن بريق إعلامي، بقدر ما هو استنهاض لعزائم الجميع لخدمة الوطن. 
،،،،،
ونتواصل مع سردية «جدلية المواطن والسلطة» إن كان في العمر بقية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: