في ذكرى وفاته نتساءل لماذا لا يوجد نموذج يشبه الأستاذ على الساحة قلمًا وفكرًا؟! ولماذا لم نجد خليفة له؟ في حين يتساوى كبار رجال الصحافة والفكر في مصر على مدار التاريخ في تبجيل الجميع لعطائهم، وقُدسية إسهاماتهم ووطنيتهم الصادقة، لكننا نجد "هيكل" يُغرد وحده في مُقدمة السرب بعيدًا عن المنافسة والمقارنة وحتى بعيدًا عن محاولة مُحاكاته!!
الإجابة بسيطة ومعقدة في نفس الوقت؛ وهى أن الأستاذ شَكل على مدى أكثر من ستين عام "حالة فريدة" لكل من حمل القلم وامتهن الصحافة، وسواء اتفقت معه أم اختلفت؛ فهو حالة لا مثيل لها لصحفي مَنْ عليه العاطي بالتميز؛ في قدرته على الاطلاع الواسع، والمعلومات الغزيرة والقدرة الخارقة على التحليل الدقيق، والوصول بسهولة إلى بواطن الأمور وشعابها، مع مقدرته الشديدة على الإلمام بكل التفاصيل، وربطها مع بعضها البعض والخروج بالنتائج الحقيقية، أو على الأقل النجاح في أن يقربنا منها كثيرًا.
فهذا الصحفي الذي دخل بلاط صاحبة الجلالة منعوتًا "بالجورنالجي" حينذاك؛ كان له الفضل في إعطاء المهنة وقارًا وهيبة، بل جعل من الصحفي قدوة؛ لكونه لم يكن من هواة الجري وراء من يعتلون السلطة، ولم يشرع في مداهنة من يجلس على مقاعد الحُكم؛ طمعًا فى منصب أو مصلحة شخصية، بل كانت السلطة على مدار عقود هي من تسعى إليه؛ فشهد تسابق الرؤساء والملوك والأمراء من أجل ملاقاته ومحاورته وكسب صداقته؛ كصحفي ومفكر عظيم شاهد ومطلع على كل تفاصيل وأسرار عصر التحولات الكبرى في مصر.
كان وما زال شباب الصحفيين ممن يخطون أولى خطواتهم في عالم الصحافة يتهافتون لاقتناء كتب الأستاذ، أو البحث عن مقالاته المنشورة هنا وهناك، من أجل تعلم كيف كان يكتب ويصيغ ويحلل بدقة متناهية، ويذهلهم أسلوبه المُعنون بـالسهل المُمتنع؛ الذي يصل إلى القارئ البسيط قبل المُثقف مباشرة وبدون تعقيد، فالاستفادة من كتابات وعرض "هيكل" لا حدود لها وتعد خبرة متوارثة، لكنك ستواجه مُعضلة كبيرة إذا ما حاولت تقليده فى طريقة الكتابة، فستجد المهمة شبه مستحيلة؛ فمُحاكاة قلم هيكل صعب وتكراره أصعب، لأنه نتاج أحداث تاريخية فريدة لم وربما لن تتكرر؛ فعلاقته بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر؛ كانت نقطة تحول واضحة في حياته، وجعلته عُنصرًا مُشاركًا في صناعة أحداث تلك الحُقبة المُثقلة بالتحولات، وليس فقط مراقبًا أو ناقلًا لها بحكم مهنته كصحفي.
كثيرون حاولوا تكرار نموذج علاقة هيكل مع الزعيم جمال عبدالناصر، في العصور اللاحقة، لكنهم فشلوا، لأن العلاقة بينهما لم تكن علاقة رئيس بصحفي، لكنها علاقة كتبها القدر، بأبعاد أخرى تتصدرها الإنسانية، وهو ما جعل مُريدي "هيكل" وقبلهم أعداؤه يتساءلون ليومنا هذا "من ساهم في صناعة نجومية الآخر؟؟ - هيكل أم ناصر -؛ والحقيقة أنهما تواجدا كل منهما لصناعة الآخر؛ فعلى الرغم من مرور أعوامٍ طوال على رحيل الزعيم جمال عبدالناصر إلا أنه حي فى وجدان وعقل الشعب؛ من خلال أعماله وإنجازاته ورؤيته للعروبة خلال فترة حكمه، وبالتوازي كتب ومقالات "هيكل" ومشاهداته تُعد إرثًا لأجيال مُتعاقبة لم تشهد الزعيم الراحل، أما هيكل كحالة أو ظاهرة فلم تفقد بريقها على مدى السنوات التي تلت وفاة عبدالناصر؛ بل ازداد بريقه في العصور اللاحقة.
قد تتفق أو تختلف مع هيكل سياسيًا وهذا حق مكفول للجميع، فالسياسة ساحة سجال ومتناقضات، إلا أنك لا تملك سوى رفع القبعة لنموذج "هيكل" المُفكر والصحفي؛ فلا تستطيع التقليل من موهبته، ويدفعك الاطلاع على دأبه أن تنحني لعبقريته وقدرته الصحفية الفذة، وهو ما يجعله في مقدمة المقدمة ونأتي بعد هذه السنوات الطوال فلا نجد له مثيلًا أو منافسًا أو شريكًا، فهو هيكل واحد؛ ولكن ما زال لدينا الأمل في تربة مصر الخصبة فكريًا وثقافيًا وسياسيًا أن تجود علينا بخليفته، وحينها سنصفق لهيكل جديد ونترحم على أستاذه القدير.