لكل مجموعة أصدقاء خصائصها وتركيبها الذي صنعته الأيام، وتدور المجموعات في حياتنا، تبعا للأقران في سنوات الدراسة، جيران الحي القديم، زملاء المهنة، أو المصادفة، وانتشرت هذه المجموعات على مدار حياة الناس في مصر، ولو تأملناها تاريخيًا فقد نجد صعوبة في حصرها.
وعلى ذلك ذاعت المجموعات التي ارتبطت بالأدب والفكر أكثر من غيرها، منها من بدأ واستمر في المقاهي وانتقل أحيانًا مع التحديث والتمدين والزحام إلى الفنادق مثل "الحرافيش" الذين كان يتزعمهم الأديب الكبير نجيب محفوظ، ومنها ما خلدته الصالونات الثقافية المنزلية، مثل صالون اللبنانية مي زيادة، وصالون العقاد في بيته في مصر الجديدة، وكثير غيرها مما ساد والتف حول شخصية مرموقة في مجالها وزمانها.
لكنني لم أكن أتوقع أن تمتد الصالونات إلى الجوانب العلمية المعمارية والعمرانية، رغم معرفتي السابقة بوجود صالون المعماري سيد كريم، والذي امتد به نجله الدكتور إبراهيم كريم في بيته بالمعادي، لأفاجأ بـ"أصدقاء الزمن الجميل" الذين يلتفون حول شيخ العمارة والعمران الدكتور عادل إسماعيل الفقي.
وإذا كانت تقاليد الصالونات والشلل الأدبية، غالبًا، عقد لقاء أسبوعي ثابت، فإن عادل إسماعيل يرتب لأصدقائه دائمًا، أو لنقل يستقبلهم، في أوقات وأماكن متنوعة على مدار العام، ربما تسبب في هذا الأمر كونهم من قارات ثلاث على الأقل، هي القارات التي حط عليها ترحاله العلمي والمهني لعقود، ما مكنه من أن يقدم في شلة العمارة والعمران العملاقة تلك أصدقاء وزملاء من أهم معماري ومخططي مدن العالم، من مصر إلى الولايات المتحدة ومن ألمانيا إلى السعودية واليابان.
وربما انتبه أو وعى الدكتور عادل إسماعيل إلى اجتماع أصدقائه على مدخل حياته مبكرًا، إذ اعتبر أن أبرز لقاءات هذه المجموعة المميزة كان هناك في جازان بالمملكة العربية السعودية، عندما كان استاذًا وخبيرًا للتخطيط العمراني بجامعة الرياض، وتعرف في العام 1973 على أصدقاء وشركاء من مخططي اليابان وهم يضعون المخطط الإقليمي لجازان ومدنها.
وتكرر اللقاء مرات في طوكيو عام 1980 وفي الدقي بالقاهرة 1996 وفي مصر الجديدة عامي 2018 و2019، ثم هو يملأ فمه وأذن مستمعيه ـ من فرط الاعتزاز ـ بأسماء يابانية رنانة مثل دكتور كنزو تانغه، والدكتورة موتوكو كاتاكورا وزوجها السفير والدبلوماسي كاتاكورا، كما توالت لقاءات أصدقاء زمن مصر والسعودية وفي ألمانيا والولايات المتحدة، وإن كان لقاء الأصدقاء بـ معهد الموسيقى العربية في القاهرة عام 2014 الأكثر شهرة، فقد رعاه المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء الأسبق، وجاء بهدف التخطيط للتنمية المستقبلية لمصر، والذي شارك فيه نخبة من العلماء والمهندسين المصريين بالداخل والخارج.
وربما قادني إلى مجموعة "أصدقاء الزمن الجميل" كتاب السيرة الذاتية: "تيسرت" للمعماري السعودي الدكتور صالح بن علي الهذلول، الصادر اخيرًا عن مركز الأهرام للترجمة والنشر؛ حيث حرص الهذلول على نشر صورة للأصدقاء من فوق سطح دار حسن فتحي بدرب اللبنانة، وفي الخلفية مسجد الرفاعي في القلعة.
وسألت الدكتور عادل إسماعيل عن هذه المجموعة فانهمر سيل من الذكريات، فهو حكاء ماهر فضلًا عن خبرات السنين (85 عامًا) متنقلًا في الحياة بين العلم والمعرفة والإنجاز، ما قاده إلى بلاد وعباد في أقصى الشمال في درجة حرارة 20 تحت الصفر إلى أقصى الجنوب في الربع الخالي في السعودية تحت درجة خمسين فوق الصفر.
تلك الرحلة وصل بها إلى مرحلة متقدمة في التعليم، في مهنة العمارة والتخطيط العمراني، وفي العلاقات الإنسانية بما تحويه من إيجابيات وسلبيات، فقد التحق عادل إسماعيل بأفضل الجامعات ودرس على أيدي أفضل المعلمين في العمارة والعمران في العالم، مما أعطاه البعد الإنساني ليتحول كل من تعامل معهم إلى أصدقاء، هو الذي درس في قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة على يد حسن فتحي ورمسيس ويصا واصف وأحمد الحسيني مصطفى ومصطفى نيازي، وحصل على الماجستير في التخطيط العمراني من جامعة واشنطن سياتل، ثم دكتوراه الهندسة في تخطيط المدن والأقاليم من جامعة كارلسروه التقنية بألمانيا عام 1969، وهي الجامعة التي حصل منها على شهادة الدكتوراه في التخطيط العمراني مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، وبعدها عمل عامين في طرابلس في نهاية الستينيات في تأسيس تعليم العمارة والعمران بالجامعة الليبية والبحوث في المدينة العربية الإسلامية.
ثم انتقل للتدريس بجامعة الرياض (الملك سعود حاليًا) لاثني عشر عامًا، وتخرج على يديه معظم المعماريين والمخططين العمرانيين من الرعيل الأول في السعودية، ساهم في دراسات تخطيط حي السفارات بالرياض وتطوير مدن أبها الحضارية ومنطقة جازان ومدنها بالشريط الساحلي، ومشروع تسجيل وتوثيق وتطوير وإعادة استخدام سكة حديد الحجاز بالمدينة المنورة (والتي حصل بموجبها على جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني في دورتها الثالثة عام 2010)، ومتوجًا أعماله بمشروع دراسة السمات الطبيعية لمكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، مما يشكل أساسًا للتخطيط والتصميم وعمارة هذه المناطق، وغيرها من المشاريع.
قال لي إن أفضل ما يملكه الآن هم أصدقاء الزمن الجميل من مصر ومن كل أنحاء العالم، وإنه تدرج في التعليم والمهنة والتجارب ووصل إلى مرحلة دولية، والآن هو يعيش شديد الاعتزاز بما جمعه في داره بمصر الجديدة من أصول دراسات مشروعاته وتخطيطه في مجالات العمارة والعمران بالمدينة المنورة، والتي قام بها في كافة الأوقات والأماكن، ما يشكل مكتبة كاملة تعد ثروة في العمارة والعمران والتنمية المستدامة، خصوصًا في عمارة المدينة العربية الإسلامية التي انصب جل اهتمامه عليها في العلم الذي تلقاه والدروس التي أعطاها والمشروعات التي صممها، هذه المكتبة التي تستحق أن تكون مؤسسة علمية بحثية متخصصة لها مجلس أمناء متميز في مجال العمارة والعمران، يحفظها من التشظي والضياع.