راديو الاهرام

محمد الشاذلي يكتب: استعادة حلوان

10-2-2022 | 18:03

يطرح إهمال مدينة حلوان وعدم الاكتراث بدورها السياحي والسكني والصحي أسئلة كثيرة عما يمكن أن نفعل بأنفسنا وبتراثنا المعماري والحضاري. 

قد يكون الحديث عن زمن الفيلات وحدائقها وشوارعها الفسيحة ضربًا من الخيال الآن، في حلوان أو في غيرها، بعد أن كسرنا حاجز المائة مليون نسمة، وبعد إدارات سياسية ومحلية نشرت العشوائية وأحزمة البؤس حول المدن المصرية. 

ولكن يبقى ممكنًا التمسك ببعض القيمة في مدننا وقليل من الأمل في استعادة شيء من بهائها أو حتى الحفاظ على ما تبقى منها.

ما أعادني إلى حلوان، رحلة المدرسة وأيام إجازات الربيع، وقطار حلوان الذي كنا نستقله من محطة باب اللوق، وهو المترو الآن، بضعة سطور في كتاب د.فوزي الشامي عميد معهد الكونسرفتوار سابقًا، وعنوانه: "شوبان على ضفاف النيل" (هيئة الكتاب ـ 2021). 

عندما ذكر المؤلف وصول أحد أهم أساتذة البيانو في العالم العازف البولندي اليهودي إجناتس تيجرمان إلى مصر في عام 1931. 

وكتبت الصحفية المصرية ليلى الهجين في جريدة "الساعة" في حوار صحفي مع تيجرمان في عام 1960 أنه جاء إلى مصر واختار مدينة حلوان جنوب القاهرة ليقيم فيها، وكان ذلك لأسباب صحية، فقد كان يعاني من الربو وكان يتوجب عليه أن يعيش في جو جاف. 

ولم يكن هناك أفضل من جو حلوان الجاف النقي، وكانت آنذاك منتجعًا صحيًا يشتهر بالمياه الكبريتية الطبيعية الشافية، وبالمناخ المعتدل. 

وأسس تيجرمان معهدًا للموسيقى في وسط القاهرة بالمنزل رقم 5 شارع شامبليون (وابور المياه سابقًا). ورفض إغراءات الهجرة إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة، وسجلت الإذاعة المصرية الكثير من حفلاته منذ العام 1949.

واستثنت الحكومة تيجرمان ضمن آخرين وسمحت لهم بالبقاء في مصر بعد العدوان الثلاثي، ومات تيجرمان في عمر 75 عامًا، ودفن في مدافن اليهود في ضاحية المعادي بالقاهرة.

وفي شهر مارس من العام 1932 جاء إلى مدينة حلوان أيضًا، ولنفس الأسباب الصحية، الرئيس البولندي الأسبق يوزيف بيوسودسكي (1867 ـ 1935)، وهو أول رئيس للجمهورية البولندية الثانية، وتولى الحكم في الفترة من 1918 إلى 1922. وأقام في فيلا جولا التي كان يمتلكها بوهدان ريشتر، الخبير في أمور الشرق الأقصى. 

وقام بزيارة الأهرامات ومنطقة الفيوم ذات الطبيعة الخلابة، كما استضافه الملك فؤاد وأقام له مأدبة عشاء فاخرة بعد أسبوعين من وصوله.

ووظيفة حلوان تجلت في رواية "خان الخليلي" لنجيب محفوظ الصادرة عام 1947 عندما نصح طبيب أمراض صدرية رشدي عاكف بعد الأشعة التي أثببت إصابته بمرض السل، بأنه يلزمه "الغذاء الجيد جدًا والراحة التامة والهواء الجاف النقي، وكل هذه متوافر في المصحة، فإلى حلوان دون تردد". 

وبعد ممناعة ومخاوف وشفاء مؤقت عاد المرض أشد ضراوة، فراجع الطبيب الذي بعد أن فحصه قال: "كلمة واحدة لا أزيد عليها: "المصحة" و"سافر اليوم إن أمكن". 

وفي صباح اليوم الأول من مارس حملت عربة رشدي وشقيقه الأكبر أحمد عاكف إلى محطة باب اللوق، ثم انتقلا إلى الديزل، فانطلقت بهما في طريق حلوان، ووصف محفوظ أبنية وفيلات في حشد طويل، ثم انسياب القاطرة بين حقول ممتدة من النضرة والخضرة والمناظر الريفية الفاتنة، ثم أقبلت الصحراء اللانهائية الجرداء.

وبلغت القاطرة حلوان، واستقلا عربة من المحطة إلى المصحة التي تراءت لهما فوق سفح الجبل كقلعة هائلة.

كل هذا لم يعد موجودًا الآن، كل أرض في حلوان وفي غيرها تحولت إلى مساكن وعقارات في غالبيتها مشوهة، وكل متنفس من الأرض الفضاء هاجمته الإدارات المحلية وباعته لشركات العقارات التي لا تفكر في غرس شجرة واحدة، ناهيك عن حديقة فهو من رابع المستحيلات. 

وقد قرأت في بريد القراء في صحيفة "الوطن" في ديسمبر الماضي لقارئ يشكو من إزالة حديقة هابي لاند في المنصورة، ووصفه بإعدام آخر متنفس بالمدينة المكلومة، وهي حديقة أثرية ظلت لأكثر من مائة عام، وتقرر إزالتها نزولا على رغبة من يكرهون اللون الأخضر، وبهدف إقامة مشروعات استثمارية.

تاريخ طويل لمدينة حلوان وجدارتها في أغراض الاستشفاء والاستجمام لنقاء وجفاف هواءها ولعيونها الطبيعية المعدنية والكبريتية وقصورها وسراياتها وفنادقها التي تحولت إلى مدارس، وحدائقها التي أصبحت عمارات.
أما قصر الأميرة خديجة ابنة الخديو توفيق والذي أهدته إلى وزارة الصحة فقد تحول إلى مصحة للأمراض الصدرية، ثم استولت عليه رئاسة حي حلوان  واتخذته مقرًا لها، وأخيرًا أنقذته مكتبة الإسكندرية وحولته إلى متحف. 

أما كابرتاج حلوان فهو مغلق منذ سنوات بحماماته وشاليهاته، في الوقت الذي يحتاج العالم ما توفره الشمس والرمال المشعة والآبار الكبيريتية للعلاج، وهي أغراض يبحث عنها الأثرياء والذين يقبلون على أي أماكن مماثلة ويدفعون فيها من دون تحفظ. 

وبينما تحافظ دول على مصادرها السياحية والعلاجية الطبيعية نهمل نحن حلوان ونخربها بكل بإصرار. 

ومصحة "آنا أصلان" في رومانيا لعلاج العظام والروماتيزم والجلطات والتخسيس وإعادة الشباب نموذجًا، حافظوا عليه، وطوروه، ويفكرون في إقامة فروع في العالم الآن.. ومنتجع سوشي في روسيا وغيره عند من حافظوا على ثرواتهم.

ويرجع تاريخ العلاج بمياه حلوان إلى عهد الخديوي إسماعيل، وآخر تجديد للحمامات جرى في عام 1955م حيث تم تأسيس "مركز حلوان الكبريتي للروماتيزم والطب الطبيعي".

وضع حلوان الآن يحرض على الاهتمام باستعادتها من عقود من الإهمال في مراكزها الصحية ومن التلوث الناجم عن مصانعها ومن العشوائية في البناء.. تتطلب حلوان إعادة تشغيل الكبرتاج المغلق والذي يتردد أن العطل مرتبط بمواسير المياه الساخنة، وقد يكون أكثر من ذلك. 

ويتطلب الحلول العملية لتقليل الانبعاثات الضارة من المصانع وتحقيق شروط النقاء البيئي ووضع خطط لنقل بعض المصانع التي لا تتوافق مع هذه الشروط.

أما الحديقة اليابانية؛ وبها ثمانية وأربعون تمثالًا يجلسون في حضرة المعلم شيبه، ويطلق عليها الناس أسم "علي بابا والأربعين حرامي"، فقد تأسست عام 1922 بأوامر من الخديو على يد المهندس ذو الفقار باشا، لترضية ودعم اليابان بعد انفصال كوريا.

وفي عملية دعائية سنة 2006 أعاد محافظ القاهرة تجميل الحديقة، لالتقاط الصور من دون دراسة علمية، فبهت لون التماثيل وطارت ستة رؤوس أخيرًا، ورأس ذو الفقار باشا نفسه، وتحطمت تماثيل الفيلة، وباتت بركة المياه التي كان يسبح فيها البجع والطيور المهاجرة جافة ومتكسرة، وتطل عليها من فوق ربوة عالية بقايا المصحة المهجورة واستراحة الخديو عباس حلمي الثاني الخربة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
خدمــــات
مواقيت الصلاة
اسعار العملات
درجات الحرارة