ترتبط الفلسفة لدى الكثيرين بالجلوس ببرج عاجي بعيدا عن الناس "والتفرغ" للتنظير والابتعاد عن الواقع؛ وهم محقون بذلك بمعظم الأوقات، وتحتفظ ذاكرة الحياة بالتقدير فقط للفلاسفة والكتاب الذين أخلصوا وكانوا صادقين مع أنفسهم ومع القراء "وأفادوهم"؛ ومنهم توماس كارليل الكاتب والفيلسوف الأسكتلندي ويعد من أهم الكتاب بالعصر الفيكتوري ومن أكثرهم تأثيرًا بالقرن التاسع عشر ومن الفلاسفة الاجتماعيين البارزين..
فهم الحياة ورآها - كما هي - وليس كما يحب رؤيتها ونبه لأهمية تحديد الهدف من الحياة ومن كل ما نفعله بأعمارنا فقال: "ليس أفظع من نشاط بلا رؤية" وقال: "شخص بلا هدف مثل سفينة بلا دفة كلاهما سينتهي به الأمر عند الصخور.
اتسمت أفكاره بالمثالية وتنقية الحياة من الأفكار التي تضرها إنسانيا وروحانيا وعرف بالحكمة والزهد؛ وما منحها قيمة "خاصة" أنها ارتبطت بالواقع وعبرت عنه بأمانة وبلا مبالغات..
ولد توماس كارليل في 4 ديسمبر 1795 ومات في 7 فبراير 1881، نشأ في أسرة فقيرة واهتم أبوه بتعليمه وكانت حياته ثرية؛ وهو القائل: "بداية كل معرفة قلب محب".
كانت لديه رؤيته "الخاصة" لحياته ولم يتفق مع والده الذي سعى لإلحاقه بالسياسة ليصبح وزيرًا واختار السير وراء "شغفه" بالرياضيات ودرسها وعمل بتدريسها وقضى بعض السنوات بدراسة نظريات نيوتن ثم ترك الرياضيات ودرس القانون وبدأ بكتابة المقالات وتأليف الكتب وأتقن اللغة الألمانية..
كان عنوانا لمقولته الرائعة: "الشخص الواثق من نفسه يقول: يبدو الأمر صعبًا ولكنه ممكن، أما غير الواثق فيردد: الأمر ممكن ولكنه يبدو صعبًا.
فقد غير مسار حياته عدة مرات وامتلك خبرات متنوعة بكل مجال عمل به وقال: لا يبني الثقة بالنفس كالإنجاز.
عُرف بتقدير قيمة العمل وقال: "طوبى لمن وجد عمله؛ فليس عليه أن يطال بنعم أخرى"؛ ومن أعماله دراسته للأدب والفكر الألماني وتأثره به وكتابته عنه، فترجم كتبًا لأدباء وشعراء ألمان منهم جوته وكتب كتابا عن حياة شيلر، واهتم بكتابة السير الذاتية لبعض الأدباء والفلاسفة ومنهم فولتير..
من أهم وأشهر كتبه كتاب "الأبطال وعبادة البطولة" والذي تفرد به؛ وقال مقولته الشهيرة والحكيمة: "أرني الرجل الذي تبجله؛ وسأعرف من أنت".
كتب عن أهم الأبطال بتاريخ البشرية؛ فقد رأى أن التاريخ تأسس بفضل الأبطال وقدم بكتابه بتمكن من أدواته كأديب ومؤرخ عملًا ينبض بالحياة وكأننا نعيش حياة هؤلاء الأبطال أثناء قراءته، وقدم عدة نماذج للأبطال من البشر في كل مجال؛ إلا في النبوة قدم واحدًا فقط؛ وهو النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، وحقق مقولته البديعة: اجعل من نفسك شخصًا نزيهًا وتأكد أن عدد الأوغاد قد نقص واحًدا؛ وهو ما فعله "بنزاهته" وتحريه الصدق عند كتاباته - خاصة - بكتابه الأبطال؛ فأفرد مساحة واسعة للكتابة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم "بإنصاف" غير معهود لدى غالبية كتاب الغرب..
كتب: أصبح من العار على أي فرد من أبناء العصر الإصغاء لما يقال من أن الاتهامات التي توجه للدين الإسلامي وللنبي محمد؛ فهي باطلة وسخيفة ومخجلة وتدل على ضمائر خربة وأرواح ميتة وقلوب خبيثة وأشاد بصفات الرسول وبحياته قبل الدعوة وبعدها وبتعاملاته مع خصومه بنبل وصدقه في تعهداته..
اختار دانتي وشكسبير للبطل شاعرًا، وللبطل كاتبًا وأديبًا اختار جان جاك روسو وصوميل جونسون وبرنز، أما البطل الراهب فخص به كلًا من زعيم الإصلاحيين مارتن لوثر ونوكس زعيم المطهرين.. وأكد أن العبقرية هي قدرة غير محدودة على احتمال بذل الجهد.
نبه لأهمية توسيع الأهداف فقال: "فلتذهب لأقصى مدى يمكنك رؤيته وعندما تصل سيكون بإمكانك الرؤية لمدى أبعد.
يرتبط اسم كارليل بكتابه الأشهر "سارتر ريسارتس" أو إعادة تفصيل للخياط ويحكي عن المظاهر المادية للعالم ويشبهها بالملابس والتي يتغطى بها عالم الروح ويرى أن هذه الملابس أصبحت بالية ولا مفر من تجديدها لتواكب العصر..
اعتمد توماس في هذا الكتاب الذي يمثل سيرته الذاتية على بحث لكاتب ألماني بعنوان "تاريخ الملابس وتأثيرها" وقد أعلن بورخيس الكاتب الأرجنتيني البارز انبهاره بها وحفظه لكثير من صفحاتها..
كتب كارليل التاريخ بنبض وأسلوب أديب واشتهر بكتابه التاريخي المميز تاريخ الثورة الفرنسية والذي كشف فيه تعرض الفقراء للاضطهاد. وأكد: "ليس من تاج بلا نصر، وليس من نصر بلا معركة وليس من معركة بلا عدو".
ومن آرائه المميزة؛ "الرأي العام أكبر كذبة بتاريخ العالم"، "العيون الضعيفة أكثر من يحب الأشياء اللامعة"، "أعظم الأخطاء ألا يدرك المرء الأخطاء التي يرتكبها"، "ما نكونه يعتمد على ما نقرؤه بعد أن يفرغ كل الأساتذة من تعليمنا؛ فمجموعة من الكتب أفضل جامعة على الإطلاق"، "طموحي العظيم أن أموت من الإرهاق بدلا من أن أموت من الملل"، "يظهر التاريخ أن أغلب من قاموا بعمل عظيم قد قضوا حياتهم في عزلة"، "تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء"، "الشجاعة التي نريدها ونكافئ عليها ليست شجاعة الموت بطريقة مشرفة بل شجاعة الحياة برجولة".