جملة بسيطة خرجت، في شكل هتاف قوي من فم رجل تجاوز السبعين، لتمزق صمت المقابر في لحظة دفن جثمان الكاتب الكبير ياسر رزق يوم الخميس الماضي، هتف الرجل السبعيني صارخاً : "مع السلامة ..يا وزير الحنيَة"!
عبارة بسيطة، تلخص معنى ما كان يقوم به ياسر رزق في رحلته القصيرة الطويلة، التي انتهت بمفهوم السنين والأيام، لكنها لم تنته بحكم التاريخ والتجارب والأفكار التي لاتموت. فأمثال ياسر رزق من فرسان التنوير لا يموتون، هم يرحلون بأجسادهم، بينما أفكارهم وأعمالهم ستظل تعيش لمئات السنين.
العبارة البسيطة، هي تعبير خالص عن "الحنية"، التي لمسها كل من تعامل مع الراحل الكبير، فهو لم يتهاون في حق أو يتنازل عن كرامته وكرامة من يعمل معه في يوم من الأيام، ودافع عن حقوق الناس في كل مكان تولى مسئوليته بقلب طفل وروح الأب، ووقف شامخاً قوياً في مواجهة أي تهديدات أو تحديات. ظل سلاحه هو "الإيمان" بالله، ثم هذا الوطن وأبنائه.
لا أقول إنه كان "وداعاً درامياً" بدأ قبل أسابيع من رحيله بالإعداد لظهور شهادته التاريخية "سنوات الخماسين"، لكنه وداع "شعبي"، لنجم ترجل وهو في قمة نجوميته، نجم سطع من قلب مصر متحدثاً بنبضها ومحذراً ومدافعاً ومتوقعاً.
نبأ رحيله، نزل كالصاعقة على المصريين، لرجل يحتفل بكتابه المهم "سنوات الخماسين"، والذي علت إعلاناته الكباري والمحاور الرئيسية بالعاصمة، معلنة عن عمل غير عادي، وشهادة وثائقية غير مسبوقة عن فترة من أهم فترات التاريخ المصري الحديث.
لا أعتقد أن هناك بيت في مصر، لم يتأثر بوفاة ياسر رزق، فقلمه القوي المبين، كان مداده من قلب جريح، استمد قوته من بيت من بيوت المقاومة المصرية، فوالده الراحل الكبير فتحي رزق لم يكن صحفياً ومراسلاً عسكرياً بمدينة الاسماعيلية، خلال حرب الاستنزاف، لكنه كان همزة الوصل بين رجال المقاومة الشعبية التي تقاوم وتدافع من الداخل.
في هذه الأجواء ولد وتربى كاتبنا الكبير الراحل ياسر رزق، شرب الوطنية من مصادرها، عرف كيف يعيش رجلاً ويموت كذلك. ربما هذه النشأة، هى التي ساهمت في تكوين هذه الشخصية الثائرة الثرية، المملوءة بالشجن والحنين.
الوثيقة المهمة التي اختار لها الكاتب الكبير/ ياسر رزق عنوان "سنوات الخماسين" ترمز الى المرحلة، التي كادت أن تنعدم فيها الرؤيه تماماً – أو انعدمت بالفعل- في الفترة ما بين ثورتي يناير 2011 و 30 يونيو عام 2013، وتستعرض تفاصيل وقائع عاشها الكاتب نفسه، وخبايا مواقف شاهدها وأبعاد تحولات عاينها رأي العين وتقصى جوانبها من صناعها، وأبطالها ومازال معظمهم على قيد الحياة.
ربما أتاح لي القدر أن أطلع على جزء من بروفات هذا الكتاب المهم "سنوات الخماسين" قبل صدوره. لكن القدر شاء لي أن أكون جزءا من أحداث هذا الكتاب، مشاركاً ومتأثراً وشاهد عيان في بعض الأحيان، على فترة أعتبرها من أهم فترات تاريخ مصر الحديث في الألفية الثالثة.
ياسر رزق لم يكن كاتباً سياسياً، بل مفكر مصري يدرك عظمة هذا البلد، ويعرف سر هدوئه وثورته. كاتب "ضخم" جمع مضامين ومعنى كلمة الفخامة في التعامل وصناعة الصحافة والكتابة بكل تفاصيلها، شخص "استثنائي" في كل شيء.
مشروع ياسر رزق التنويري سيظل باقياً.. لأن الأفكار لا تموت..!