عندما يُعد مفكر بوزن أنيس منصور برنامجًا تليفزيونيًا، تقدمه مذيعة بقيمة ليلى رستم، فلا عجب أن يكون ضيف الحلقة عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، عام 1966، وحوله عشرة شموس تحاوره؛ نجيب محفوظ، يوسف السباعي، ثروت أباظة، عبدالرحمن الشرقاوي، أمين العالم، الدكتور عبدالرحمن بدوي، وغيرهم. بمقدور كل منهم أن يكون له مدار خاص وأقمار تدور في فَلَكِه.
تحت عنوان نجمك المفضل عُرض البرنامج، فهذا ما كان يناسب رجل الشارع في ذلك الوق، كان طبيعيًا أن يستمع لأم كلثوم تشدو بقصيدة أبي فراس الحمداني، (إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى/ وأذللت دمعًا من خلائقه الكبرُ)، أو برباعيات الخيام، فلا يشعر بغربة، وأن يغني الموسيقار محمد عبدالوهاب قصيدة من قبيل كليوباترا للشاعر علي محمود طه، أو جبل التوباد لأمير الشعراء، وغيرها فيدندن بها رجل الشارع وهو مندمج في عمله؛ نقاشًا، أو حدادًا، أو غير ذلك.
في مثل هذا المناخ كان طبيعيًا أن يطلب أبو القصة القصيرة وضيف شرف معرض القاهرة الدولي للكتاب ذلك العام، يحيى حقي، من العلامة جمال حمدان، كتابة مقدمة لترجمته كتاب (القاهرة) لمؤلفه البريطاني دزموند ستيوارت، ذي الأصول الأيرلندية، فيشرع حمدان في العمل ولا ينتهي إلا وقد أتمت مقدمته تسعين صفحة، لتصدر مع الكتاب في نحو مائتي وسبعين صفحة؛ ثُلث الكتاب المطبوع.
ومثل الدكتور حمدان لا يعرف غير هذا المستوى الفريد من العمل، ففي كتابه، أو قل موسوعته الفريدة (شخصية مصر)، امتدت به المقدمة أكثر من ستين صفحة، تخلو من إسهاب أو إطناب، فكأنما كل كلمة من كلماتها حجر اتخذ موضعه وموقعه المناسبين في بناء شامخ راسخ، فلا تعرف كيف تحركها، ولا كيف تستبدلها، وحسبك من كل هذا الاستغراق في تأمل بديع دلالاتها.
وفي هذا المناخ أيضًا، ألف أحد طلاب الفرقة الثانية بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) كتابًا بعنوان (المتنبي) ضَمَنَهُ أربعة تراجم عن شاعر الخيل والليل والبيداء، ثم ما لبث أن صَدَرهُ بمقدمة من مائة وخمسين صفحة، ردًا على كتاب أستاذه الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي)، الأمر الذي حدا بمؤسسة دار الهلال إلى نشر المقدمة في كتاب مستقل تحت عنوان (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، لمؤلفها العلامة، مُحقق التراث- محمود شاكر، أبو فهر.
ولعل أشهر المقدمات قاطبة هي (مقدمة ابن خلدون) التي كتبها لمؤَلَفِهِ الفريد (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، فإذا به يختمها وقد أتمت ثلاثمائة صفحة من القَطع الصغير، فما كان من الناشرين إلا أن قدموها للقارئ في طبعة منفصلة، اتسمت بشمولية فروع معارفها في التاريخ والجغرافيا والطب والسياسة وغيرها.
وعلى قدر مقدمات الكُتاب والمفكرين آنذاك جاءت نظيرتها في الموسيقى، فذاك مناخ عام وليس بخاص، تحولت فيه البذور إلى أشجار وارفة باسقة. مناخ عم الأجواء كافة، أدبية وعلمية وفنية، فموسيقيون بوزن رياض السنباطي، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي وكمال الطويل، لم يكن بوسعهم تقديم غير تلك الأعمال الرائدة، لحنوا قصائد يتوقف عندها لسان الفصيح الأريب، فكيف بها تُغنى سهلة جزلة، تجري على لسان رجل الشارع من دون جهد، تذوق معي مقدمات أنت عمري، الأطلال، أقبل الليل، الجندول، رسالة من تحت الماء، قارئة الفنجان، وغيرها كثير مما يضيق به المكان.
ليظل معرض القاهرة الدولي للكتاب حديقة غَنَّاء بكل فريد.. كل عام وحضراتكم بخير.. وحفظ الله الوطن.
[email protected]