كورنيش الإسكندرية.. كلمة تحتوي على كثير من المعاني، فهو قبلة الشعراء والأدباء، وفي الوقت نفسه متعة عامة الشعب، انه مزيج من هيبة الجمال وبساطة التكوين، تغنى به الشعراء، وانحنى الأدباء أمام جماله وروعته، وانبهر بسحره العشاق.
اعترض البرلمان على فكرة إنشاء كورنيش الإسكندرية، والتي طرحها إسماعيل باشا صدقي رئيس الحكومة، لكنه تمسك بها إيمانًا منه بأن الكورنيش سيؤدي إلى انتعاش الحياة الاقتصادية، ويضفي على الإسكندرية مزيدًا من البهاء، واقتنع البرلمان بالفكرة ليبدأ المهندس "دان تمار" أثناء تولي عثمان باشا محرم وزارة الأشغال، في تنفيذها 1925م بطول 20 كيلو مترًا ليمتد من سراي المنتزه إلى سراي رأس التين، وتم الانتهاء منه 1934م، فضاحية الرمل أصبحت أجمل منطقة في حوض البحر المتوسط، أما شواطئ الميناء الشرقي فأصبحت مبانيها الشاهقة تطل على الكورنيش، ونشطت حركة العمران فشيدت المباني الرائعة التي مازالت شاهدة على جمال وروعة الإسكندرية لوقتنا هذا.
كان المجتمع السكندري مجتمعًا "كوزموبوليتانيًا" أي متعدد الثقافات والأجناس يضم ديانات متعددة وأساليب معيشة مختلفة، مجتمع يموج بالحركة والنشاط تجاريًا وصناعيًا وأيضًا أدبيًا، يعيش الجميع في مودة وسلام، وعلى الرغم من هذا التنوع الهائل إلا أن كل جالية ظلت محتفظة بعاداتها وأسلوب معيشتها ولكل منها ما يميزها من أعمال.
كان اليونانيون من أوائل الأجانب الوافدين على الإسكندرية في العصر الحديث، فمنهم الأثرياء، ومن عملوا بالتجارة وامتلكوا البنوك فسكنوا المناطق الراقية حول المنشية، حقيقة برعوا في قطاعات كثيرة ومتنوعة؛ منها الزراعة وتجارة القطن والحبوب والدخان، واشتهروا بالعمل في تجارة التجزئة والمخابز والمقاهي والمطاعم ومحلات الحلوى ودور السينما والمسرح وأستوديوهات التصوير.
بنى أثرياؤهم أول مستشفى يوناني 1830م"المستشفى الإغريقي" وأدخل رجل الصناعة اليوناني إسكندر سارباكس صناعة النشا والجلوكوز 1942م، ولا تزال الإسكندرية تضم العديد من المطاعم والمقاهي التي أنشأها اليونانيون ومنها:
حلواني ديليس أسسه الخواجة موستاكس 1907م، و"ديليس" تعني البهجة، أدخل موستاكس الأيس كريم لأول مرة إلى الإسكندرية بنكهة الفواكه والمستكة، اكتسب شهرة واسعة فكان شعاره "كل اللي في نفسك وادفع اللي معاك" إلى جانب كونه خبازًا ماهرًا، وصلت شهرته إلى البلاط الملكي فصنع تورتة تتويج الملك فاروق 1937م، كما طلب منه الملك صنع تورتة زواجه من الملكة فريدة، يحتفظ المحل الذي تديره حفيدته بالتراث القديم من حيث المقتنيات والأدوات القديمة، وحتى العمالة حتى آخر حياتهم.
مقهى ومطعم اتينيوس أسسه كوستا اتينيوس 1900م، وكان يعمل الحلويات والأيس كريم، تولت زوجته إدارته بعد وفاته حتى الستينيات، وأدخلت عليه بعض التطوير مثل الموسيقى الكلاسيكية، وبعد تأميمه اشتراه أحمد نصار، يضم المطعم صورًا ووثائق نادرة لتاريخ الإسكندرية منها صور لميادينها القديمة، وأخرى تؤرخ لدخول الاحتلال البريطاني لمصر، وآثار قصف الإسكندرية وهدم المنازل والشوارع ولوحة كبيرة لأسرة محمد علي وصور لكثير من الزعماء.
مقهى فاروق وله قصة لطيفة، حين اعترضت سيدة يونانية موكب الملك فاروق المتجه من الكورنيش إلى سراي رأس التين فتوقف الموكب وسط اندهاش الجميع،واقتربت السيدة من سيارة الملك الذي أشار لحراسه أن يتركوها، فطلبت من الملك أن يقبل دعوتها لتناول القهوة بمقهى "كاليميرا" والغريب أن الملك لبى دعوتها وطلب تناول الشاي مع الشيشة ثم غادر المقهى، في اليوم التالي تلقت السيدة "ماري بياناتي" صاحبة الدعوة مبلغا من المال من الملك فقامت بتجديد المقهى وتزيينه بتيجان ملكية نحاسية واتخذتها شعارا للمقهى الذي غيرت اسمه إلى "مقهى فاروق" الموجود حتى الآن في بحري.لا يزال المقهى محتفظا بطابعه الخاص والتيجان الملكية تزينه مع صورة الملك فاروق وهو يدخن الشيشة وصور أخرى له ولميادين الإسكندرية القديمة.زاره كثير من المشاهير ومنهم د. أحمد زويل.
ساهم الإيطاليون في الأنشطة والمشروعات الاقتصادية والثقافية والتعليمية فعملوا تقريبا في كل المجالات وفي المصالح الحكومية، تفوقوا في الخدمة البريدية فأنشأ "كارول ميراتي" البوستة الأوروبية في ميدان القناصل، وشهدت الإسكندرية أول عرض سينمائي 1897م في كافيه "زارتي" الإيطالي، وأنشأوا الكلية الإيطالية 1862م ومدارس الإرساليات.
وكان للجالية الإيطالية دورها البارز في تحديث الاسكندرية عمرانيا، ففي عهد الملك فاروق قام المهندس "ماريو روس" بتصميم وبناء مسجد القائد إبراهيم وإعادة بناء مسجد المرسي أبوالعباس، كما أنشئت الحدائق والنافورات والتماثيل والمسارح وشيدت المباني والشركات؛ منها فندق سيسل ومتروبول ومباني البنك الأهلي وبنك مصر وقصر المنتزه ومحلات هانو وشيكوريل وقصر رأس التين وفيلا لوران التي تحولت إلى مدرسة لوران الثانوية بنات.
نتج عن تواجد الأجانب بكثرة، إضفاء الطابع الغربي على الإسكندرية حتى قال البعض "أخرج من الإسكندرية كي تذهب إلى مصر".