قرأتُ كتاب (حدود مصر الملتهبة) للباحث والأديب محمد شلبي أمين فوجدتني أمام "جمال حمدان" جديد يعيد إحياء معارك القلم المفصلية حول قضايا الوطن ومشكلاته المصيرية، فالكتاب يمثل محاولة استشرافية استخدم فيها المؤلف تكنيكات مختلفة من الوصف التاريخي والبنيان الجغرافي والإيقاع الوطني من فصل لآخر.
صحيح أن كتابه السابق: (إبراهيم الورداني.. غزال البر) بدا أكثر رومانسية واقترابًا من شخصيته الإنسانية، إلا أن العمل الأول لأي كاتب يمثل دومًا مرآة ناطقة عاكسة لأهم مواصفات واتجاهات ورؤي هذا الكاتب مهما جاءت الأعمال التالية أكثر تطورًا وأشد بنيانًا وأقوى تعبيرًا.
ثمة عدة فرضيات طرحها محمد شلبي في مؤلفه الماتع (حدود مصر الملتهبة) أخضعها للفحص والتحليل.. تلك الفرضيات هي: الفرضية الأولى: هل هناك مناطق جديدة في مجال الحدود الجغرافية لم تكتشف بعد، وأن من الضروري البدء في اكتشافها وفتح الباب أمام مزيد من الدراسات نحوها.
الفرضية الثانية: أن مشكلات الحدود موجودة دائمًا وأنها تتفاقم في ظل تغير معادلات القوة والضعف، على الأقل فيما يخص منطقة الشرق الأوسط.
الفرضية الثالثة: أن هناك أزمة تعترض سبيل الوطن العربي كما تعترض غيره من الأقاليم الجغرافية الأخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. هي إذن أزمة قديمة تفاقمت لا في الدول العربية وحدها، بل في المنظومة الدولية بأكملها.
الفرضية الرابعة: هي فرضية إمكانية تجاوز أزمة الحدود في الوطن العربي، خاصة أن بعض الدراسات القديمة والمعاصرة كانت جميعها قد طرحت حلولًا، فلماذا لم يتحقق منها شيء؟!
المهم أن محمد شلبي حاول كشف واستجلاء ملابسات وأسباب عدم الالتزام بما تم اقتراحه سابقًا، أو قلة جدواه، أو قلة المؤمنين المهتمين بتنفيذه.. كما حاول إعادة صياغة مقترحات عملية قابلة للتطبيق، ربما تسهم ولو قليلًا في إقالة عالمنا العربي من عثرته التاريخية المؤقتة على المستويين: السياسي الاقتصادي، والاجتماعي الثقافي.
تكمن أهمية كتاب (الحدود الملتهبة) الصادر عن دار سنابل للنشر بالقاهرة، في كونه يعمد إلى تعبيد الطريق نحو اكتشاف مزيد من المعطيات غير المطروقة في تقييم ونقد أزمة الحدود في الدولة الوطنية الحديثة، سواء على مستوى دراسات وأطروحات المفكرين والمستشرقين الاستعماريين، أو على مستوى البنية السياسية والاقتصادية الداخلية المصابة بمشكلات الحدود، وما انتابها من تحور وتحول أو تطور.
صياغة فصول هذا الكتاب بتكنيكات هندسية متباينة كانت هي طريقته في التعريف بخطورة وأهمية قضية الحدود كأصل وأساس أغلب الصراعات القديمة المتجددة في وطننا العربي.. خاصة أن مشكلات الحدود "المصطنعة" قسمت الوطن العربي تقسيمًا، وقطعته تقطيعًا إلى دويلات متناثرة متناحرة، وهو ما ظهر جليًا بعد اتفاقية (سايكس بيكو) إبان حقبة الاستعمار البريطاني الفرنسي للوطن العربي.. الاتفاقية الملعونة التي غرست بذور فتنة نائمة إلى حين!.. سرعان ما ستندلع نيرانها المستترة ذات مساء دامٍ بين الأخوة والأشقاء، فتغدو الحدود الجغرافية المصطنعة.. بمثابة برميل بارود متفجر!!
السؤال الآن هو ما الحل؟
يدعونا المؤلف إلى وقفة مع النفس قبل السير في عراء المفاهيم، لأننا قد نتحدث، أحيانًا، عن شيء مختلف فيه وحوله، لا سيّما بالنسبة إلى أولئك الذين أسبغوا معانٍ مواربة قابلة إمّا للتوظيف متعدّد الأغراض، بحيث يضيع البعد الصحيح الذي يمكن الاحتكام إليه، وإمّا خنقه بما لا يدع مجالا للتنفّس إلا من قناة ضيقة.
أنني اتفق مع اتجاه بوصلة محمد شلبي تمامًا، وأضيف إليه أن منطقة الشرق الأوسط تمر بتغييرات عاصفة هائلة تتخلل مكوناتها السياسية الاقتصادية وبنيانها الثقافي الاجتماعي، ما يمهد الطريق لإعادة رسم خريطة جديدة للإقليم قابلة للطي أو التآكل والانكماش.. لكن بأيدينا نحن اليوم، لا بأيديهم هم!! فهل نحن غافلون أم نتغافل عن الذئب المتربص بنا، فيما نتربص ونترصد ببعضنا الدوائر.. كأننا نساق - للأسف الشديد - إلى التشتت والتشرذم المحتوم؟
الأخطر هنا أننا ما زلنا نختلق الذرائع والأوهام والترهات السياسية البالية، بل والأدهى أننا نتستر وراء مفاهيم ومصطلحات قديمة لم يعد لها وجود اليوم في ظل اكتساح مفاهيم العولمة الجديدة، من قبيل: علينا أن نحذر من السقوط في أتون الحروب المذهبية والعرقية أو الوقوع في حبائل المعارك الاستخباراتية المشتعلة هنا وهناك.. وهلم جرا من مفردات وألفاظ تزول أصداؤها أو تسقط من تلقاء نفسها.. تبعًا لاعتبارات المصالح!!
إننا حقًا في انتظار انهيار تلك الحدود إلى غير رجعة.. لا يهم متى. المهم أن يحدث؛ لأن الدول والشعوب تتطور بفعل الحاجة المشتركة، كما يتطور العلم بفضل البحث والتجربة.
وفي الخلاصة، فإن أزمة الحدود بين دول العالم العربي هي أزمة مصطنعة ارتبطت بالخطط والمؤامرات الدولية لوجودها، والمعالجة لا تبدأ بتغيير الألوان بل بتبديل الاتجاهات.