راديو الاهرام

د. حسام الإمام يكتب: حدث بالفعل (2) .. تحت القطار

20-1-2022 | 09:08

ليس من سمع كمن رأى، ولا من رأى كمن عاش التجربة بتفاصيلها، أن نرى على شاشة التليفزيون شخصًا يرقد تحت القطار محتضنًا ابنته لينقذها، أو هذا الذي يسقط وهو يحاول اللحاق بالقطار للذهاب إلى عمله، كل ذلك مقبول ومعقول مهما تلفت الأعصاب وانطلق اللسان بكلمات تدور ما بين الدهشة والخوف والدعاء...إلخ. مقبول، لأنك لم ولن تشعر  - مهما حاولت - بحجم الرعب الذي يعيشه هذا الشخص في أحضان ذلك الوحش الحديدي.

عشت تلك التجربة منذ سنوات، كنت أسافر من مدينتي طنطا إلى القاهرة لتلقي محاضرات في اللغة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي، كان الموعد المناسب لظروف عملي هو التاسعة صباحًا، وكانوا يطلقون عليها دورة "ربات البيوت"؛ نظرًا لأن كل الحضور كانوا من السيدات، وكان لابد لي من المغادرة في السادسة صباحًا حتى أستطيع اللحاق بربات البيوت، أقصد زميلاتي في المركز، وفي أحد الأيام استيقظت متأخرًا، فانطلقت مسرعًا إلى محطة القطار، وما إن وصلت إلى الرصيف حتى وجدت القطار وقد بدأ يتحرك.

طبعًا من يسافر كثيرًا يعلم أن ركوب القطار في تلك اللحظة له أسلوب خاص، فلابد أن تجري بجوار القطار لمسافة معينة حتى تأخذ سرعته ثم تمسك بمقبض الباب ثم تقفز إلى الداخل، ورغم أنني أسافر منذ الصغر وأعلم القواعد "بحذافيرها" إلا أنني لم أتأخر من قبل، ولم ألجأ إلى تطبيق تلك القاعدة ولا مرة واحدة في حياتي، كانت تلك هي المرة الأولى... والأخيرة.

نظرت إلى القطار نظرة الخبير الذي يعلم ما سوف يفعله، نظرة من يسخر مما يحدث ويقول له هل تتحداني؟ هل بلغت بك الجرأة أن تتحرك بدوني وتتصور أنني لن أستطيع اللحاق بك أيها القطار اللعين؟ انتظر وسوف ترى، وللأسف كأن القطار قد سمع حديثي لنفسي وقرر أن يعطيني درسًا قاسيًا حتى أحترم ميعاده ولا أتأخر عليه مرة أخرى.

جريت بجانب القطار حتى شعرت أن سرعتي أصبحت مناسبة للقفز إلى الداخل، مددت يدي وأمسكت بمقبض الباب ثم أطلقت قدمي لأضعها على عتبة القطار لأفاجأ أنها تلامس طرف الباب ثم تفلت في الهواء لأجد نفسي أسقط تحت القطار.

ما أتذكره أو ما أستطيع أن أصفه في تلك السطور أنني قد سقطت بقوة على شيء حديدى، أتلف ركبتي لفترة طويلة، وفى أقل من لحظة كان رد فعلي أن احتضنت حائط الرصيف وقبل أن أغمض عيني رأيت عجلات القطار تأتي في اتجاهي كأنها وحش سوف يلتهمني، ربما كان ذلك هو السبب في أن أغمض عيني حتى يمر هذا الوحش بسلام، لم يستمر الأمر أكثر من عشر ثوانٍ، ربما كانت هي أطول اللحظات في حياتي.

ما هذا الصوت الذي يخترق أذني؟ إنني أسافر كل يوم تقريبًا وأسمع صوت القطار دائمًا حتى بات أقرب الأصوات ألفة إلى أذني، لكنني أقول وبصدق إن صوت القطار وأنت تقف على الرصيف شيء وصوته وأنت ترقد بجوار عجلاته شيء آخر لا يمكن وصفه، أن تسمع هذا الصوت وأنت تنظر إلى القطار قادمًا من بعيد شيء، وأن تشعر به يخترق أذنيك عن قرب آخذًا بكل حواسك هو شيء آخر.

الغريب والعجيب هو تلك الغريزة المصاحبة للنفس البشرية، حب الاستطلاع أو ربما حب المعرفة، يبدو أن الرهبة والخوف لا يستمران مع الإنسان كثيرًا حتى في أصعب الأوقات، هل هناك أصعب من ذلك الموقف؟ شخص يسقط تحت القطار، ويشاء الله ألا يلتهمه ذلك الوحش لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.

لحظات من الرعب ثم تقوم النفس البشرية بمهمتها، العيون المغمضة رعبًا وهلعًا يقتلها حب الاستطلاع أو المعرفة لما يحدث، اطمأنت النفس أن القطار لن يلتهمها، فأصدرت الأمر للعين لتنظر وترى وحشًا ذا أقدام كثيرة يلاحق بعضها بعضًا بسرعة شديدة، وكأنها تتسابق لتلتهم تلك الفريسة السهلة التى جاءت إليها طوعًا لا كرهًا.

بل إنها بدأت تراقب حركة العجلات على القضبان وتتعجب من انتظامها، وللحظة أتذكرها وقد أبدت إعجابها بالنظام الميكانيكي المنتظم الذي يسير به ذلك الوح، لدرجة أنه مع مرور آخر عربات القطار بجانبي وجدت رأسي يدور معها وكأنني أودعها وربما أسألها البقاء قليلًا للمزيد من حب الاستطلاع، لقد أصبحنا أصدقاء واعتاد بعضنا البعض خلال تلك اللحظات.

نعم خفت في البداية، بل أقول قتلنى الخوف، لكن بعد ذلك اعتدت الصوت والمكان، وفتحت عينيَّ ونظرت حولي باطمئنان وكأنني أجلس مع أصدقائي نتبادل أطراف الحديث، ما هذا؟ وكيف لتلك النفس البشرية بتلك القوة؟ أم هي بلادة الإحساس بالموقف؟ أم حب الاستطلاع؟ أم هل هو حب المعرفة الملازم للإنسان مهما كانت العواقب؟

ومر القطار بسلام ثم قفزت إلى الرصيف الذي كان خاليًا تمامًا من البشر، لأنظر في ساعتي وألطم وجهي صارخًا: المحاضرة! وانطلقت لأستقل عربة بيجو حتى أصل إلى المحاضرة في موعدي، وأنا لا أشعر بالإصابة التي حدثت لركبتى، كل ذلك من أجل عيون اللغة الفرنسية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: