عشق فنه وأخلص له فأحبه الناس ومنحه التاريخ البقاء بأعماله وسيرته
موضوعات مقترحة
فقد والده وعمره 6 أشهر فعانى من الحرمان واليتم فى طفولته
أسلوبه المتميز فى التأليف والإخراج والتمثيل جعله صاحب مدرسة «المدبوليزم»
كرَّمه السادات بسبب «بابا عبده».. وحصل على وسام العلوم وجائزة الدولة التقديرية
تألق فى «مطرب العواطف» فقدمها النمساويون على مسارحهم وترجموها للألمانية
اكتشف أبرز نجوم المسرح.. ومنح عادل إمام شهادة الكوميديان فأصبح "الزعيم"
لم يكن فقط ناظرا لمدرسة الكوميديا، يمتلك القدرة على أن يضحك الجميع، بل كان أيضا ناظرا لمدرسة التراجيديا، لا يقوى أى مشاهد على أن يحبس دموعه أو يمنعها من أن تغرق وجهه، الصدق كان عنوانه فى كل عمل قدمه، مما جعله ناظرا لكل فنون التمثيل، قدم عشرات الأدوار المختلفة، وبرغم تعدد هذه الأدوار، لكنه لم يقدم دورا أحس الجمهور فيه بأنه كان مفتعلا وهو يجسده، فقد كان يتعامل مع أدواره كالنحات الذى يتعامل مع خاماته لا يتركها حتى تكون فى أبهى صورة، لذلك أحبه الكبار والصغار، فنجح مع الجميع، ولأنه كان فنانا استثنائيا، لم تكن مواهبه تقتصر فقط على التمثيل، بل كان كاتبا ومخرجا وفنانا تشكيليا ومؤديا للأغانى بشكل تفوق فيه على الكثيرين من المطربين وطوال رحلته الفنية التى تجاوزت الـ60 عاما، سكن كل القلوب، إنه الفنان عبد المنعم مدبولى، والذى تواكب هذه الأيام مرور 100 سنة على ميلاده، وعن رحلته الفنية ومشواره الزاخر بكل النجاحات والتكريمات والاكتشافات، كانت هذه السطور احتفاء بمئوية هذا الفنان، الذى أحب فنه وأخلص له فأحبه كل الناس، ومنحه التاريخ البقاء بأعماله وسيرته برغم رحيله منذ سنوات عن عالمنا .
إن الإبداع يخرج من رحم المعاناة، ربما تنطبق هذه الجملة الفلسفية على "بابا عبده" كما كان يناديه ويلقبه الكثيرون، فقد عاش الفنان عبد المنعم مدبولى، الذى ولد فى 28 ديسمبر سنة 1921، بحى باب الشعرية طفولة مأساوية، فقد توفى والده وعمره 6 أشهر فقط، فنشأ يتيما مع شقيقين كانا أكبر منه، وكما كشف فى لقاء تليفزيونى جمعه بالإعلامية هالة سرحان، بأنه عانى لفترة طويلة من الفقر واليتم، حتى إنه كان يأكل بملعقة أكلها الصدأ، لكن ذلك لم يحرضه على أن يكون ناقما على المجتمع من حوله، بل كان دافعا له لكى يحلم بحياة أفضل، وكلما ذاق مرارة الفقر التى أبت أن تفارقه حتى فى مراهقته، اشتاقت نفسه أن يتذوق حلاوة الدنيا فى قادم أيامه، فأخذ يجتهد فى دراسته وينسى همومه ومعاناته فى مواهبه الفنية التى اكتشفها بداخله، مثل الرسم والتأليف والتمثيل، حتى إنه قاد فريق التمثيل بالمدرسة، وهو فى المرحلة الابتدائية، علاوة على أنه كان يتميز بخفة دم شديدة، جعلت زملاءه يتسابقون على مصاحبته، بل يتشاجرون من أجل الفوز بالجلوس معه، فقد وجد "مدبولي" أن أكبر سلاح يمكن للإنسان أن يقهر به أحزانه ومعاناته هو الضحك والسخرية منها، والسعى من أجل تغيير الواقع لما هو أفضل.
البخيل
كان حلم عبد المنعم مدبولى، أن يصبح ممثلا بعد أن وجد نفسه فى التشخيص، عندما كان يجسد أدواره على المسرح المدرسي، وكيف أن التمثيل يتيح له أن يعايش شخصيات مختلفة جعلته يتمرد بها على واقعه، فكان كلما ارتدى ثوب شخصية غاص فيها ليعيشها بكل ما فيها، فوجد متعة لم يكن يدركها من قبل، فتعلم منذ نعومة أظافره أن الصدق فى معايشة الشخصيات هو المتعة بعينها، وقتها تمنى أن يدرس هذا الفن ليصقل به موهبته، لكنه علم أن المعهد العالى للفن التمثيل والذى أنشئ فى عام 1930 لم يستمر سوى عام واحد وتم إغلاقه، فلم يجد أمامه سوى أن يلتحق بمدرسة الفنون التطبيقية العليا لأنها الأقرب لمواهبه الفنية، ثم عمل مدرسا بقسم النحت بها فور تخرجه.
فى ذلك الوقت صدر قرار وزير الشئون الاجتماعية، بإعادة افتتاح المعهد العالى للتمثيل، وبالفعل تم ذلك فى مايو 1944، كانت مدة الدراسة به ثلاث سنوات، وما إن علم مدبولى بذلك حتى سيطرت عليه السعادة، فها هو حلمه بدراسة التمثيل يحيا من جديد، لذلك كان من أوائل المتقدمين للدراسة بالمعهد فى دفعته الثانية عام 1945، ونجح فى اختبار القبول بعد أن قدم مشهدين نالا إعجاب اللجنة الممتحنة، أحدهما من مسرحية "البخيل" لموليير، والآخر من مسرحية "على بك الكبير" لأحمد شوقي. وكان من زملاء دفعته، عبد المنعم إبراهيم، عدلى كاسب، محمود عزمي، وأيضا فاتن حمامة، لكنها لم تستكمل دراستها بسبب زواجها وقتها.
دسوقى أفندي
تخرج مدبولى فى المعهد سنة 1949، لتبدأ رحلته مع الاحتراف بانضمامه إلى فرقة المسرح المصرى الحديث، بعد أن اختاره مديرها زكى طليمات، الذى تتلمذ على يديه، فهو أول مدير للمعهد العالى للتمثيل عند إعادة افتتاحه سنة 1944، وشارك فى أول عمل مسرحى له كمحترف، عندما جسد شخصية "أعرابي"، وعندما أنشئ مسرح التليفزيون فى أوائل الستينيات انضم إليه، علاوة على عمله بالعديد من الفرق الأخرى التى أسهمت فى أن يتعلم الكثير من أدوات المسرح، بل شجعه ذلك على أن يسهم فى تأسيس بعض الفرق المسرحية مثل، "المسرح الحر" و"المسرح الكوميدي" و"فرقة الفنانين المتحدين"، ولم يكتف بالتمثيل بل مارس الإخراج ليصبح من أهم المخرجين فى تلك الفترة، وصاحب مدرسة كبيرة فيه، ومن أهم أعماله المسرحية التى قاربت الخمسين عملا "جلفدان هانم، أنا وهو وهي، دسوقى أفندي، مطرب العواطف، أصل وصورة، حلمك يا شيخ علام، المفتش العام، السكرتير الفني، مطار الحب، نمره 2 يكسب، ولوكاندة الفردوس".
كما أخرج لفرقة إسماعيل ياسين "3 فرخات وديك" و"أنا وأخويا وأخويا "، وقدم مع فرقة الفنانين المتحدين "البيجاما الحمراء، الزوج العاشر، العيال الطيبين"، ثم انفصل عنها عام 1973 ليكون فى عام 1975 فرقته الخاصة «المدبوليزم» وقدم من خلالها عروض: "راجل مفيش منه، يا مالك قلبي، مولود فى الوقت الضائع، مع خالص تحياتي، حمار ماشالش حاجة، وغيرها من الأعمال التى جاءت بعد ذلك ومنها " ريا وسكينة "، التى جعلت له أسلوبا مميزا فى الكوميديا يعتمد على الارتجال من داخل النص دون الخروج عن عالمه وبعيدا عن الإسفاف والابتذال، لذلك لم يأت لقب "المدبوليزم" من فراغ، لكن محبيه أطلقوه عليه فى ستينيات القرن الماضى لأسلوبه الخاص فى التمثيل والإخراج والتأليف، وهو ما كشف عنه فى مقابلة تليفزيونية مع الفنانة ناهد جبر ببرنامج "سينما القاهرة" مؤكدا أنه أطلق عليه عندما قدم مسرحية "مطرب العواطف" عام 1962، ونجاحها الكبير واختيارها لكى يتم تقديمها على خشبة المسرح فى النمسا باللغة الألمانية وطباعتها أيضا هناك بعد ترجمتها .
وبرغم أن مدبولى لم يكن من الجيل المؤسس للكوميديا المصرية، الذى كان يمثله نجيب الريحانى وعلى الكسار وغيرهما ممن عاصروهما، لكنه عندما جاء بعد هذا الجيل تميز لأنه استفاد من تجاربه وأضاف لعالم المسرح أسلوبه الخاص مع رفقاء رحلته مثل فؤاد المهندس وأمين الهنيدى وغيرهم، علاوة على أنه عايش انفتاح الفن ووصوله لأكبر قاعدة من الجماهير من خلال الإذاعة والسينما والتليفزيون.
السكرتير الفني
احتل المسرح مرحلة كبيرة من حياة الفنان عبد المنعم مدبولي، حتى أصبح فيه إحدى العلامات البارزة، كما يرجع إليه الفضل فى اكتشاف العديد من الممثلين الذين أصبحوا فيما بعد نجوما ساطعة فى سماء المسرح وعالم التمثيل مثل شويكار، عندما قدمها فى مسرحية "السكرتير الفني" وكان دورها فيها بداية شهرتها وسطوع نجمها برغم أنه لم يكن دورها، حيث كانت هناك نجمة غيرها مرشحة لهذا الدور لكن استبعدها مدبولى عندما طلبت منه تعديلات كثيرة عليه واستعان بالوجه الجديد شويكار، ليؤكد على أنه قادر على اكتشاف المواهب الحقيقية، كما حدث مع سعيد صالح ومحمد صبحى وأحمد زكى ومحمد نجم، وغيرهم، بل إن عادل إمام - زعيم الكوميديا - يعد أحد اكتشافاته، فهو من وضعه على هذا الطريق الذى لم يكن إمام يتخيل نفسه فى، حيث كان يقدم وقتها الأدوار التراجيدية على مسرح الجامعة، لكن مدبولى راهن عليه فى مسرحية "أنا وهو وهي" عندما قدمه فى دور "الباشكاتب دسوقي"، فغير بنجاحه فيها مسار حياته الفنية، بل مسار الكوميديا فى الفن المصرى، الذى قاده عادل إمام حتى يومنا هذا.
كذلك استطاع مدبولى أن يكون مع زميل رحلة كفاحه الفنان فؤاد المهندس، ثنائيا فنيا أنعش الحياة المسرحية، سواء بالعمل معه ممثلا أو مخرجا، برغم أن بدايتهما معا لم تكن من خلال المسرح، بل كانت من خلال الإذاعة عندما كان يكتب ويمثل معه فى لبرنامج "ساعة لقلبك" الذى كان يعد من أهم البرامج فى تاريخ الإذاعة المصرية، ولم يقتصر تعاونهما على الإذاعة والمسرح فقط بل امتد للسينما، وكانا مثالا للصداقة الحقيقية التى امتدت لما يزيد عن نصف قرن، كما لعب دورا كبيرا فى إقناعه بعد نجاح مسرحية "أنا وهو وهي"، التى كانت السبب فى زواج المهندس من شويكار، بأن يشكلا معا ثنائيا فنيا، وقد كان حيث انطلقا كالصاروخ فقدما أنجح الأعمال الفنية فى المسرح والإذاعة والسينما.
أدوار خالدة
تأتى السينما فى مسيرة الفنان عبد المنعم مدبولى كمحطة مضيئة وبصمة ليست فقط فى تاريخه، لكن فى تاريخ السينما نفسها، رغم أنه بدأ رحلته معها متأخر وتحديدا فى عام 1958، عندما شارك فى فيلم "أيامى السعيدة" مع فيروز وحسن فايق وعبد الفتاح القصري، إخراج أحمد ضياء الدين، وبعدها بدأت انطلاقته السينمائية، فقدم عشرات الأفلام منها "ربع دستة أشرار"، "عالم مضحك جداً"، "غرام فى أغسطس"، "مطاردة غرامية"، "المليونير المزيف"، "أشجع رجل فى العالم"، وغيرها حتى اختتمها قبل رحيله كضيف شرف فى بعض الأفلام ومنها فيلم "أريد خلعا"، الذى قدمه فى سنة 2005 وكان آخر أعماله، وخلال هذه الرحلة قدم العديد من الأدوار التى تعد علامات بارزة فى ذاكرة السينما، فمن ينسى أدواره الرائعة فى "مولد يا دنيا، الحفيد، إحنا بتوع الأتوبيس".
ومن يتأمل تجربته مع الدراما التليفزيونية يجدها لا تقل تميزا عن تجاربه المسرحية والسينمائية والإذاعية، فمن ينسى أعماله مثل: "لا يا ابنتى العزيزة "وأبنائى الأعزاء شكرا"، وغيرها من الأعمال التى أكدت أنه فنان من الطراز الثقيل، الذى يتقن كل الأدوار وليست فقط الكوميديا هى عالمه الوحيد، التى حاول البعض اختزاله فيها، ففى الدراما التليفزيونية صدقه الجميع فى أدواره التراجيدية، وليس أدل على ذلك من أن الجميع كانوا ينادونه بـ "بابا عبده"، وهو الاسم الذى كان يحمله فى مسلسل "أبنائى الأعزاء شكرا " وظل ملازما له طوال حياته.
أيضا لم يقتصر الحب من الجمهور لـ "بابا عبده" على الكبار فحسب، بل نافسهم فى حبه الصغار أيضا، لأنه كان يحبهم وسخر فنه من أجلهم فقد لهم الفوازير فى شهر رمضان مثل "جدو عبده زارع أرضه، جدو عبده راح مكتبته" وغيرها من الفوازير التى حققت نجاحا كبيرا، كما غنى لهم أغنيات لا تزال خالدة حتى اليوم ويرددها حتى من ولدوا بعد وفاته مثل "الشاطر عمرو، الشمس البرتقالي، توت توت" علاوة على أغنية " السبوع " التى قدمها فى فيلم "الحفيد"، التى لا تزال تتردد فى كل البيوت.
وبرغم أن حب الجمهور هو أهم وأكبر جائزة يتمناها كل فنان لأنها الأبقى، لكن رحلة مدبولى لم تخل من تكريمات وجوائز رسمية، فقد حصل على تكريم خاص وشهادة تقدير من الرئيس السادات عن دوره فى مسلسل "أبنائى الأعزاء شكرا" كما حصل فى عام 1983، على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى وفى عام 1984 حصل على جائزة الدولة التقديرية، كما نال 3 جوائز دولية عن دوره فى فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس"، كذلك تم تكريمه فى عام 1986، فى مهرجان زكى طليمات.
يا صبر طيب
بعيدا عن الفن، فقد تزوج مدبولى مرة واحدة من خارج الوسط الفني، وكان ثمرة هذا الزواج ثلاثة أبناء "أمل، محمد، أحمد"، وبشهادة أسرته كان مدبولى نعم الأب والزوج، لا يهمه سوى فنه وأسرته.
سنوات طويلة عاشها الفنان عبد المنعم مدبولى مخلصا لفنه، لم يتخل عنه حتى بعد أن نال الكبر منه، وتمكن المرض من جسده ليرحل عن عالمنا "بابا عبده" فى 9 يوليو سنة 2006، عن عمر 85 عاما بعد رحلة طويلة مع الفن ممثلا ومخرجا ومؤلفا وتشكيليا تجاوزت الستين عاما، ملأ الدنيا حبا وضحكا وبهجة، رحل لكن لا يزال تلاميذه الذين يسيرون على دربه يذكرونا به، وأيضا أعماله التى لا تزال تضحك الجماهير وتبكيهم وتعبر عن أحوالهم ولسان حالهم يدعون له بالرحمة والمغفرة.