مصطلح المجتمع المدني يحمل الكثير من التقييمات المتباينة، وربما المتطرفة في درجاتها؛ فإما ريبة وشكوك محاطة بالاتهامات لكل مُنتمٍ إليه، وإما تأليه للقائمين عليه وتبجيل لأهدافهم، ولتعريفه فهو نوع من أنواع الأنشطة التطوعية غير الحكومية، تنظمها مجموعة من أجل خدمة المجتمع في مجال الصحة أو دعم التعليم المستقل، وربما تتجه بعض تلك الجماعات إلى التأثير على السياسات العامة مانحة لنفسها سلطة الحشد والتوجيه والإصلاح.
وظل هذا المصطلح يتأرجح مع كل نظام عالمي؛ حيث التصق مفهوم المجتمع المدني في أغلب الحالات بدلالات معيارية وأيديولوجية؛ فوفقًا للرؤية (الليبرالية التقليدية) يتسم المجتمع المدني بأنه مجال تطوع اختياري مرحب به اجتماعيًا، على النقيض يعطي التفسير (الهيجلي) للمفهوم أبعادًا سلبية متهمًا إياه بالأنانية في مواجهة الإيثار الذي تفرضه مبادئ هيجل، وهو ما لم يغفله الماركسيون والشيوعيون؛ الذين ينظرون إلى المجتمع المدني بصورة سيئة وربطوه بالهيكل الطبقي غير المتكافئ، وبالتالي بالمظالم الاجتماعية.
أما في مصر فبدأ العمل الأهلي منذ أكثر من مائة عام، وفي عام ٢٠٠٢ كان هناك ٣٤ ألف جمعية؛ إلا أن اللغط حدث بعد ثورة يناير ٢٠١١؛ عند تسجيل ثلاثة آلاف جمعية جديدة في بضع شهور قليلة تحت مسميات مختلفة، اجتمع أغلبها في تخصص حقوق الإنسان، وثبت حصولها على منح وتبرعات سرية من جهات أجنبية من دون إذن وزارة التضامن الاجتماعي.
وأيا ما كان ما وصلت له التحقيقات التي بها تم غربلة تلك المنظمات بين من يعمل بأمانة الهدف وبين المُغرض والمُمول، فإن مصطلح المجتمع المدني بالمنتمين له حمل من يومها الريبة والشك وعدم المصداقية؛ حتى جاءت القيادة وأعلنت إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في مؤتمر الشباب المنعقد في الشهر الحالي، وأقرت عام ٢٠٢٢ عام المجتمع المدني.
جاء هذا الإعلان بمثابة أول تقدير من جانب الدولة، ممثلة في قيادتها السياسية لهذا النشاط، ودرءا للشبهات التي أحاطت به، لكن اللافت للنظر هو أن يأتى ذلك بالتزامن مع إطلاق إستراتيجية حقوق الإنسان، التي أعلنتها الدولة المصرية في سابقة هي الأولى.
وهنا سنجد أنفسنا بصدد إعادة هيكلة مفهومين طالما ثار حولهما الجدل؛ هما حقوق الإنسان والمجتمع المدني، في إشارة سياسية مهمة أن الدولة تعزز كلاهما، ولم يعد ينظر إليهما على أنهما أداة تخريب، أو تدخل خارجى، أو هيمنة غربية. وقد ربطت القيادة فى كلمتها بين المصطلحين بإعلانها مبدأ شراكة ودعم المجتمع المدني في منظومة حماية حقوق الإنسان بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولكن والمهم لكي يتم تفعيل المنظومة بأسس قوية؛ لابد أن يتبع الاحتفاء بالمجتمع المدنى عام ٢٠٢٢، عدد من المبادرات المهمة؛ منها نقل ثقافة حقوق الإنسان والعمل الأهلى للمؤسسات التعليمية، سواء كانت مدارس أو جامعات، فى شكل مقررات وأنشطة ومبادرات مع المجتمع المحيط، وتفعيل الإدارات القائمة على حقوق الإنسان فى الوزارات المختلفة، وتشجيع مختلف المؤسسات الحكومية أن يكون لها بعض الأنشطة التي تقوم بتنفيذها بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني.
ويظل الأهم في ذلك دور الإعلام ولسان خطابه العادل، والذي نطمع في أن يتوقف عن التشكيك فى حقوق الإنسان والمجتمع المدنى، ورسم صور سلبية عنهما انطلاقًا من تقييم سلبى لأداء بعض المنظمات المدنية، مع توخي الحذر من بهتان المعلومات بدون حجة أو دليل.
والانتباه لرسالة القيادة التي يمكن التوقف أمامها كثيرًا؛ كإعلان رسمي أن الدولة المصرية أولى بحقوق المواطن، وتعزيز روابطه المدنية، ولا تنتظر دروسًا أو توجيهات من أحدٍ؛ فلا وصي غربي ولا مُرشد شرقي.
والتساؤل؛ تعمل الدولة لرقي الإنسان بكافة طاقتها وعلى كافة الأصعدة؛ فهل وصلت الرسالة إلى جميع المؤسسات والهيئات وقواعد المجتمع، وهل استوعبت منظمات المجتمع المدني أهمية دورها وقدرت ثقة القيادة السياسية لها؟؛ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة ونتمنى تكاتف جميع الأطراف من أجل مصر الجديدة الحقيقية.