العالم بأسره يتجه اليوم نحو الفكر التفاعلى.. لا أحد بإمكانه أن ينزوى فى ركن قصي يقرأ ويؤلف ويبدع ويخترع، ثم يخرج على الناس بشيء جديد . العلم المعاصر هو علم تبادلى متجاوز للحدود، وبإمكان العامل فى الصين أن يتقن صناعة أدق تكنولوجية أمريكية دون الحاجة للسفر أو مغادرة مقعده. فالعلم يأتيه سهلاً ميسوراً، والتجربة وحدها هى التى تمنحه الخبرة، وحينما يطور أدواته ويضيف للصناعة الأمريكية التى اقتبسها بالأمس فكرة جديدة فإنها تنتقل بسرعة عبر الأثير الإليكترونى وتتلقفها الأيدى العاملة فى كل مكان. هكذا تتطور الصناعات التكنولوجية بشكل يومى عبر الحدود بسرعة خرافية، بحيث نشهد فى كل ساعة منتجات أكثر تطوراً وحداثة.
العالم اليوم يمر بعدد من المتغيرات الجيوسياسية الهائلة في عالم ما بعد جائحة كورونا..
هناك قوى تصعد، وقوى تسقط .. تحالفات تنحل، وأخرى تنشأ .. حروب وعمليات عسكرية هنا وهناك.. خريطة سياسية على صفيح ساخن ملتهب.
استقراء المشهد المستقبلى بات ضرورياً لتحديد الأولويات وتمييز الأصدقاء من الأعداء.
ومصر هى المفتاح لكل هذا .
موقعها المتميز بين القارات الثلاثة يتيح لها أن تلعب دوراً محورياً دائماً لتعظيم العلاقات العالمية الأفريقية لا كمجرد معبر أو ممر. بل كشريك تجاري، وملتقى مشترك للطرفين.
مصر لديها عدد من الأسواق الحرة، وأسطول من الطيران المدنى، بخلاف الموانئ وشبكة المواصلات الداخلية الجديدة، والأيدى العاملة الوفيرة.. فهل نحن جاهزون لنلعب هذا الدور المحورى؟
مؤسسات الصحافة ومعها دور النشر المحلية والعالمية باتت تخشى أن يأتى اليوم الذى تختفى فيه الكتب المقروءة اكتفاءً بالكتاب الإليكترونى. حتى إن التعليم فى أكثر من دولة بات يعتمد على الكتاب الإليكترونى التفاعلى. فلا حاجة الآن للتلقين والتلقى السلبي، بل لا بد من المشاركة والتعاون والتفاعل والبحث والتساؤل، حتى لا ينفصل طالب العلم عن واقعه المعاصر، ويغدو فى النهاية كياناً جامداً يلفظه سوق العمل الذى لا يعترف سوى بالكفاءة العملية والخبرة التجريبية.
الإعلام يتمتع بمزايا لا يحوزها غيره، كمؤسسة تثقيفية وفكرية بعيدة الأثر. وأخطر مزاياه قدرته على إنشاء جسور تفاعلية بينه وبين الجمهور، سواءً كان الجمهور قارئاً أو مستمعاً أو مشاهداً.
المشاركة المجتمعية والدور الفعال يكمن السر فى خطورة الدور الإعلامى أن بإمكانه دائماً تحريك الرأى العام.
هناك كتاب مهم تُرجم مؤخراً بعنوان: (الأخبار والرأي العام، تأثير الإعلام على الحياة المدنية) يؤكد أن الأخبار اليومية لها دور فى تشكيل الوعى، ناهيك عما تتضمنه الصحف من محتوى تثقيفى وأدبى وفنى.
وهناك أيضا، جهود ثقافية تقوم بها مؤسسات ثقافية عدة، كالهيئة العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، من أجل امتصاص الطاقات الإبداعية للشباب، وبث الفكر التنويري الحداثى.. لكنها لا تزال أدوار، مهما عظمت، مشتتة وقاصرة عن إحداث حراك مجتمعي ملموس.
إن مشروع تطوير العقول الذي يتبناه الرئيس السيسي، كما أفهمه ليس مشروعاً تثقيفياً فوقياً يلعب فيه المثقفون دوراً تنظيرياً متعالياً، بل هو مشروع شعبي عملى يهدف للقضاء على البطالة بتحويل مصر إلى عقل صناعى تقنى كبير.
إنها مبادرة للبحث عن طريقة لملاحقة الرَكب الحضارى، ولتحسين أحوال الناس المعيشية بإنشاء مشروع قومى عام يستوعب طاقات المصريين الإبداعية والفكرية والبدنية. فتطوير العقل المصري الجمعى معناه حسن استغلال اللحظة الحاضرة للاتجاه للمستقبل.
ولماذا الآن؟
مما لا شك فيه أن مصر، بل ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها، مقبلة على وضع إقليمي ودولى مختلف وغامض.
هناك قوى عالمية تأفل وتضعف، وقوى أخرى تصعد وتستحوذ لنفسها على مساحات جديدة من النفوذ . والأحداث الإقليمية الملتهبة المتقلبة تفرض على الراغب للبقاء قوياً ثابتاً أن يبحث لنفسه عن مستقبل.
الآن وليس فى الغد ولا بعد غد.. فلا وقت هناك للتوانى والتخاذل والتردد فى اتخاذ القرارات ووضعها موضع التنفيذ. مصر تبحث لنفسها عن موضع قدم فى الخارطة الصناعية والتقنية العالمية، ولن يحدث مثل هذا الأمر من تلقاء ذاته، بل من لا بد فعل ملموس وحقيقي يحقق مثل هذه النقلة.
فضاءات التطوير وآفاق التعاون المشترك أكبر العراقيل التى قد تصادف مشروعاً كهذا أننا لا نتمتع بثقافة العمل الجماعى.
المنظومة الإدارية التى جثمت عليها منذ الأزل أشباح الروتين والبيروقراطية والتزمُّت والفردية حوَّلت القطاعات الإدارية إلى جزر منعزلة لا تناغم أو تعاضد فيما بينها.
مشروع تطوير العقول مشروع جماعى يستلزم تكاملاً بين عدد من المؤسسات العلمية والثقافية والتعليمية والإعلامية من أجل تحقيق نهضة مجتمعية حقيقية.
هناك دعوة أُعلنت مؤخرا في مؤتمر الشباب بشرم الشيخ، وأبحاث كُتبت، وندوات أقيمت. فهل هذا يكفى؟
التعاون مطلوب من أجل توفير التمويل لوضع المقترحات المطروحة قيد التنفيذ.. ثم إن الاستمرارية والديمومة هى الفيصل بين أن يظل المشروع حياً ولو نظرياً لحين تنفيذه، وبين أن يُطوى فيُنسَى.
[email protected]