"لا يوجد في الحياة شيء يدعونا إلى الخوف.. وإنما كل شيء يدعونا إلى الفهم، والآن حان الوقت لكي نزيد مما نفهمه، حتى نقلل مما نخافه".. عالمة الفيزياء ماري كوري.
يبدو الأمر وكأنه اتفاق متزامن بين عناصر الطبيعة للرد على البشر وتوجيه رسالة للإنسان.. هذا المخلوق المستهلك الأول للموارد والمنتج الأوحد للمخلفات والمفسد الأكبر للبرية، يتجسد هذا الاتفاق بين العناصر، في المناخ بتزايد قوة وحجم الأعاصير، وفي الصحة بتوالي وتسارع الأوبئة الجديدة، وفي الغذاء بتراجع جودته وتناقص محاصيله.
وشاء التوقيت أن يضع مسئولية الطقس والمناخ والعلاقة التبادلية بين الأحياء في الطبيعة مع غير الأحياء، واستهلاك الإنسان ومخلفاته، في الداخل، بجانب التنسيق والتعاون مع دول العالم ومنظماته، بتنوع طقوسها وتعدد مداراتها في الخارج.. شاء أن يوضع كل هذه المهام، في الداخل والخارج، وما بينهما، في يد سيدة هي الأصغر سنًا من بين الوزيرات في الحكومة الحالية، وزيرة البيئة د.ياسمين فؤاد.
منذ بداية الاهتمام بما هو مرتبط بالبيئة، من 4 عقود تقريبًا وحتى اليوم، لم يكن الحديث يدور حول البيئة إلا وكان التمويل هو المكمل والمتمم لأي حدث وحديث، إلا أن حديث التمويل توارى أمام أهمية الفهم والإدراك، اولًا، ويعد محورًا لخطط الوزارة يأتي قبل التمويل، وهو ما دار في حوار بين الوزيرة و"كتاب البيئة والتنمية" مؤخرًا.
الفهم والوعي والإدراك لأهمية البيئة للمواطن وللمسئول قبل التمويل، يضع المسار السليم والآمن للتمويل في مساره الصحيح، وذلك ما بدأ به اللقاء في بيت القاهرة بالفسطاط، مع قضايا أخرى، منها أن يصبح الإنسان مكملًا للنظام الإيكولوجي بدلا من أن يكون متحكمًا فيه، وألا يكون شاهدًا على الطبيعة، بل عون لها، وهو ما يصحح مسار الإيقاع الإيكولوجي الذي ينظر إلى البيئة والمجتمع كوحدة واحدة.
قُدِر للبيئة وللوزيرة معًا، الاجتهاد في كل الأدوات والاتجاهات المتاحة للفهم أولًا ثم الفعل ثانيًا.. فهم البشر ومنشأ سلوكياتهم، وفهم الطبيعة وتفاعلاتها، في الماضي والحاضر والمستقبل، بدءًا من الحوار والمنطق، مرورًا بالتوافق، ووسائط المعرفة وسبل المحاكاة، والهدف هو: تلافي حجم التلوث بكل أشكاله والهدر في الموارد بمختلف سبله، فيما كان ماضيًا، يضاف إليه منع الاستغلال غير المستدام للموارد الطبيعية للمواليد الجدد.
ولا تتوقف التحديات البيئية الراهنة، عند البحث عن حلول لمخلفات الماضي وهي تحديات عاجلة تقتطع كمًا هائلًا من الوقت والموارد والجهد، يتزامن معها تحديات البحث لهندسة بيئة المستقبل، ووضع البعد البيئي في كل خطوة وخطة وبرنامج عبر البحث عن حلول لإشراك المجتمعات المحلية في عموم مصر، بشكل جاد، وتوصيل مفهوم أن فهم الطبيعة البشرية جزء لا يتجزأ من التنمية المستدامة.
ولاشك أن نشر ثقافة البعد البيئي في كل حركة من حركات الحياة، هو بالضبط محاولة للفهم أولًا.. فهم أنفسنا وفهم المدى والمجال والمدار الذي نتفاعل فيه مع الطبيعة ومفرداتها، والتي أنشأها الخالق سبحانه.
ما تقوم به الوزارة بمثابة الجسر الذي يصل ما بين أطراف المعادلة، وهما الإنسان، والطبيعة، وبينهما المعرفة، وهو ما يلقي الضوء على المستقبل والتعرف على ملامحه بلا توجس أو خوف.
بأسلوب مبسط، فإن سبل تحقيق استدامة التنمية، تتركز في الحد من استهلاكات الطاقة في الأساس، ثم الانتقال إلى الطاقة الجديدة والمتجددة، وإنشاء نظم غذائية تعتمد على ثمار النباتات، ومبادرات صافي صفر كربون، والحفاظ على المياه وتطوير إدارتها، تحت مظلة "الاقتصاد الدائري".. ونتساءل: هل يستقيم أن تقوم بمجمل هذه المهام وزارة واحدة في ذاتها؟
هذا في وقت لا نتعامل فيه مع تهديد المخاطر المباشرة وهي تغير المناخ فحسب، بل هناك أبعاد أخرى من المخاطر غير المباشرة مثل الأمطار الحمضية الناتجة عن زيادة معدل الكربون في الهواء، والتكيف والتعامل مع جائحة فيروس كورونا، والاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار في عدد من الدول الإقليمية والعالمية.
يراهن "كتاب البيئة والتنمية" على دور للدولة فائق الأهمية في الشأن البيئي العالمي، يتاح فيه لوزارة البيئة القدر الأعظم للتكيف مع التحديات ومعالجتها، وأهمها اكتشاف حلول مبتكرة للفهم، وتمويل المشروعات وإشراك القطاع الخاص، ودمج وتشبيك الوعي البيئي في أخلاقيات المجتمع قبل تغيير سلوكيات أفراده عبر المجتمع المدني، وهو قضايا تجعل من أداء واهتمامات وزارة البيئة، يحاكي أداء وتأثير الوزارات السيادية، وهذه رؤيا للوصول إلى "إستراتيجية الاستدامة المصرية" وهو اتجاه مطروح أمام أجندة مؤتمر شرم الشيخ "COP 27" نوفمبر المقبل.
واستعدادًا لهذا المؤتمر المهم محليًا ودوليًا، الذي يتوقع لفعالياته 20 يومًا، نقترح إصدار "مدونة سلوك بيئية" تطبيقية تطرح على المستوى المؤسسي والمجتمعي، توجه في الأساس إلى مؤسسات الدولة والحكومة والقطاع العام والكيانات الرسمية، وتطبق وتسير بالتوازي جنبًا إلى جنب مع الأفراد والمجتمع.
نعلم أن الإدارة المصرية حققت الكثير من الأهداف البيئية التي حددتها الأمم المتحدة، ما أتاح لمصر رصيدًا مرموقًا لمبادرات دعم الشأن البيئي في عدة مستويات، مثل النقل والطرق والتشييد والطاقة الجديدة والصناعة وإدارة المياه، مكنها من الوصول إليها وتحقيقها على مستوى العالم العربي والقارة الإفريقية، وهو ما يبشر بتحقيق تقدم رئيسي لإطلاق "إستراتيجية الاستدامة المصرية" على المستوى الإقليمي والعالمي.
[email protected]