التطور الطبيعي لإنشاء أي مدينة، أن تنمو تدريجيًا إلى أن تصل إلى ذروة التطور والازدهار، وتصعد المدينة إلى تألقها، ومع مرور الزمن يمكن أن يتراجع ذلك التألق نتيجة لتغير الظروف والتحولات المحيطة، ويتجه الاهتمام نحو مدينة أخرى.
ولكن ليس من المعتاد أن تصل المدينة إلى ذروة مجدها ثم تندثر! وتصبح أطلالًا، وبعد قرون طويلة تعود إليها الحياة مرة أخرى وتسترد مكانتها لتصبح عروس مدن حوض البحر المتوسط.
فمدينة الإسكندرية حققت تلك المعجزة، فظلت قرابة القرون العشرة منذ أن أنشأها الإسكندر الأكبر، مركزًا للحضارة والثقافة وأيضًا الجمال، ومركزًا للحكم فكانت عاصمة مصر.
لأسباب متعددة منها السياسية والصراعات المذهبية الدينية، طمست بعض معالمها التاريخية والجمالية، وتسببت الزلازل في اندثار مدينة الإسكندر الأكبر والتي أصبحت بعد 80 سنة من إنشائها أكبر وأعظم عاصمة في العالم.
بدأت مكانة الإسكندرية في التقلص بعد اتخاذ الفسطاط مركزًا للحكم وعاصمة مصر، فلم تشهد الإسكندرية أي عناية رغم أهميتها الحربية، فقط أقيمت بها قلعة قايتباي، واتخذها الفرنسيون قاعدة عسكرية أثناء الحملة الفرنسية فبنوا قلعتي كوم الدكة وكوم الناضور، إلا أنها ظلت مدينة صغيرة لا يتعدى سكانها 6 آلاف نسمة، إلى أن كانت الطامة الكبرى حينما حرمت من المياه العذبة لمدة ثلاث سنوات بعد أن دمر الإنجليز السدود التي تحجب مياه البحر عن بحيرة مريوط سنة 1801م وفي 1807م أثناء حملة فريزر، مما تسبب في إتلاف الزراعات وقضى تمامًا على الحياة بالقرى المجاورة لها. ولم يتبق من الإسكندرية أواخر القرن 18 سوى الأطلال.
حقيقة يرجع الفضل إلى محمد علي باشا في عودة الحياة مرة أخرى للإسكندرية، بحفر ترعة المحمودية 1820م، لينتعش اقتصادها مرة أخرى بعد غياب دام طويلا ولتصبح عروس البحر المتوسط.
"هنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها" هذا ما قاله الإسكندر الأكبر وهو أمام قرية راكوتيس "راقوده" تجاه جزيرة فاروس والتي تقع حاليًا بين موقع قلعة قايتباي وقصر رأس التين، هذه القرية الصغيرة شدت انتباه الإسكندر وهو في طريقه إلى معبد آمون بواحة آمون "سيوة" سنة 332 ق.م؛ حيث بدأت رحلته من منف إلى كانوب "أبوقير" عبر نهر النيل ثم السير على الشاطئ بمحاذاة بحر الروم "البحر المتوسط".
كان هدف الإسكندر من إنشاء مدينة حلمه إيجاد ميناء بحري قريب من اليونان ومقدونيا وموانئ البحر المتوسط، لتكون مركزًا لنشر الحضارة الإغريقية.
وفي 331 ق.م خطط المهندس "دينوقراطيس" لمدينة على أروع ما يكون على غرار المدن اليونانية ذات الشوارع المتعامدة وتميزت المدينة بشارعين رئيسين أحدهما طولي والآخر عرضي مع تقسيمها إلى خمسة أحياء، وكان حي دلتا أجملها فكان شمال طريق كانوب بين الشارع المعروف بشارع ضريح الإسكندر وهو تقريبًا شارع النبي دانيال الحالي والمنطقة الواقعة في الشمال الشرقي للمدينة قبل محطة ترام الشاطبي حاليا بالرمل، وضم الحي السرايات الملكية الرائعة وحدائقها المقامة على مرتفعات مما يجعلها مطلة على البحر، وكان به مدرسة الإسكندرية ومكتبتها والمسرح والفورم أو البورصة.
وصف دينوقراطيس الإسكندرية بأنها "شمس العالم بروعة عمارتها وشخصية أهلها وآثارها الطيبة".
لم يمهل القدر الإسكندر الأكبر ليرى المدينة الرائعة التي سميت باسمه وخلدته لقرون طويلة وحتى الآن، فقد توفي في بابل وعمره 33 سنة ونقل جثمانه إلى الإسكندرية ليدفن بها سنة 323 ق.م.
بعد وفاة الإسكندر جاء بطليموس من بابل ووضع يده على مصر، وأسس دولة البطالمة، ثم ضم سوريا وقبرص وفينيقيا واتخذ من الإسكندرية مقرًا لحكمه وعاصمة لدولته، واهتم بطليموس ببناء المعابد وأسس مدرستها الشهيرة وجمع إليها العلماء والفلاسفة من اليونان وسائر بلاد العلم والصناعة، كما أسس مكتبتها النفيسة واستكملها من بعده ابنه بطليموس الثاني الذي استكمل أيضًا بناء منارة الإسكندرية.
وأصبحت الإسكندرية محور التجارة العالمية ومحطًا للعلماء والفلاسفة وتفوقت على المدن اليونانية في الثروة والعظمة، والعلوم، والفنون، والثقافة.
قالت عنها كليوباترا: "الإسكندرية هي قطب المغناطيس للفلاسفة والعلماء والتجار والملاحين".
أما يوليوس قيصر فقال: "بين مد وجزر، بين الأصداف والنوارس.. إسكندرية يا مدينة تبدأ فينا وتنتهي".
وعنها قال أنطونيو: "حاورت المدن جميعها إلا أني لم أسمع إلا همسها، ومن بين المدن جميعًا أنظر حولي ولا أجد سوى الإسكندرية.
وللحديث بقية..