لا شك في أن الله سبحانه وتعالى هو المدبر لكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون؛ بسماواته ومجراته وبحاره وأراضيه، وكل ما نعلم وما لا نعلم.
وأنزل الله تعالى قرآنه الكريم على رسوله محمد «صلى الله عليه وسلم» تلك المعجزة الإلهية التي ستظل قائمة حتى يوم القيامة، ومنذ نزول القرآن الكريم على نبينا محمد وحتى يومنا هذا يبحث العلماء في إعجاز كلام الله تعالى، فهو كتاب هداية وإرشاد وتشريع ويحمل بين طياته ما يؤكد صدقه في شتى العلوم، كما يحوي القرآن الكريم آيات تدل على صدقه من علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والطب وعلم الأجنة والأحلام والحشرات والنباتات والهندسة والجيولوجيا والفلك.. إلخ، علاوة على إعجازه في اللغة بكل فروعها، فقد جمع القرآن الكريم علوم الأولين والآخرين.
ومعجزة القرآن الكريم يراها أهل العلم بمختلف مجالاته فهي جلية في نظمه وفي لغته وفي بلاغته، وفي حكايته عن الأولين، وفى إخباره عما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل، هذا بخلاف التشريع وغيره وغيره.
وعلاوة على كل ما سبق، فإن القرآن الكريم يخاطب القلب الحي الواعي الصحيح، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، ولا يخاطب القلوب الميتة المريضة قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)، والقلوب المغلقة بالأقفال هي تلك القلوب التي يملأها الهوى والدنيا؛ وما فيها من ملذات محرمة وشهوات مذمومة.
وبخلاف ما يحمله القرآن الكريم من تشريعات وأوامر ونواهٍ وعلوم وحقائق في كل المجالات، فإنه يحمل الكثير والكثير من كنوز الهداية ولآلئ الحكمة والمعرفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا تدبرنا بعض الآيات التي وردت في سورة الكهف سنكتشف العجب العجاب.
فهناك أمور قد لا يستطيع العقل البشري أن يستوعبها بسهولة؛ فأي عاقل يستطيع أن يعقل أن خرق سيدنا الخضر «عليه السلام» للسفينة كان أعلى درجات المعروف! وأن قتله للغلام كان فيه كل الرحمة! وأن حبسه كنز الطفلين اليتيمين كان في حقيقته قمة الوفاء! وسنجد حل ذلك اللغز المحير في قوله تعالى: (فاصبر عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، فتلك هي الهدية التي يريد الله تعالى أن يهدينا إياها، ويا لها من هدية إذا اطمأن بها قلب العبد المؤمن الذي سلم أمره كله لله، مع أخذه حتمًا بالأسباب، فهنيئًا له بخير الدنيا وجنة الآخرة، ونجا من خطوب الدنيا وكوارثها وابتلاءاتها.
بل يختصر الله تعالى لنا الدرس – الذي علمه الخضر لموسى «عليهما السلام» – في قوله تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ويعلمنا الله تعالى أن كل أمر يحدث لنا؛ سواءً كان ظاهره خيرًا أو ظاهره شرًا، فهو حتمًا خير، ولكننا لم نُحط به خُبرًا.
فإذا كنت طالبًا وواصلت الليل بالنهار في المذاكرة، ولم تأت النتيجة في النهاية كما تمنيت فاصبر على ما لم تُحط به خُبرا.
وإذا كنت تعمل بجد وإخلاص، ولم يقدرك مديرك فاصبر على ما لم تُحط به خُبرا.
وإذا كنت بارًا بوالديك؛ سواء كانوا على قيد الحياة أو توفاهما الله، وجاءك ابن تسوؤك تصرفاته وتحزنك أفعاله، فاصبر على ما لم تُحط به خُبرا.
وإذا كنت تحاول أن تسير على الطريق المستقيم، وأردت أن تكمل نصف دينك، وأنعم الله عليك بالزوجة الصالحة، وتأخر الإنجاب، فاصبر على ما لم تُحط به خُبرا، ولك أن تقيس على ذلك باقي أحداث الحياة ومصائبها وابتلاءاتها.
فتن الدنيا الأربعة وكيفية النجاة منها
هدايا سورة الكهف لم تنته بعد؛ بل مازالت تفاجئنا وتدهشنا، فقد عرض الله لنا فيها فتن الدنيا الأربعة؛ وهي: فتنة الدين وفتنة المال، وفتنة العلم، وفتنة السُلطة.
بل وتزداد دهشتنا بأن الله تعالى أرشدنا لنا في تلك السورة كيفية النجاة من تلك الفتن.
أما الفتنة الأولى فهي فتنة الدين، وجسدتها قصة شباب أهل الكهف الذين نصروا الله فنصرهم، كما يرشدنا الله تعالى، في نفس السورة كيف النجاة بأنفسنا من فتنة الدين، وذلك بالبحث دومًا عن الصحبة الصالحة التي تساعدنا على الثبات على الحق حيث يقول الله تعالى: (وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا).
أما الفتنة الثانية فهي فتنة المال؛ وقد جسدها الله لنا في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين - ومن قبل في سورة القصص في قصة قارون وغيره وغيره الكثير - وعرضت لنا سورة الكهف قصة صاحب الجنتين، وحكمة الله تعالى في تفاوت الرزق بين الناس؛ عبر حوار دار بين رجلين، أحدهما مؤمن فقير، والآخر كافر غني «صاحب الجنتين» الذي جحد بأنعم الله عليه، وظن أنه ليس هناك بعث بعد هذه الحياة، وأنه صاحب المكانة العالية، والوجاهةُ والأفضليةُ على ذلكَ الرجل الفقير وأمثاله من الفقراء، ورد عليه الرجل الفقير المؤمن قائلًا: (..أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا).
أما النجاة من فتنة المال، فقد علمنا الله تعالى أن نُرجع كل الفضل والنِّعم التي أنعم الله بها علينا إلى الله تعالى صاحب الفضل والمنة، فهو الذي يحيي ويميت ويعطي ويأخذ ويمنح ويمنع، وفي عطائه الخير كله، كما في منعه الخير كله، ولابد من إرجاع الفضل والحول والقوة له وحده سبحانه وتعالى، وحكى الله تعالى لنا ذلك على لسان الرجل المؤمن الفقير في حواره مع صاحب الجنتين الكافر عندما قال له: (..وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله..).
أما فتنتا العلم والسُلطة؛ فالحديث عنهما سيكون في مقال آخر إن شاء الله تعالى إن كان في العمر بقية.