كان لديه إحساس قوي بأن رأسه لم يعد على ما يرام، شيء ما غامض يحسه يطُن داخل رأسه ويجعل يده تهتز بكوب الشاي، فكر أن الموضوع ليس بسيطًا كما أعتقد أبناؤه بعد ما حكى لهم، وأصر أن سبب علته مرض عضوي وليس نفسيًا، ومع تقدمه فى العمر فوجئ بأشياء لم تكن في باله أيام الشباب.
مؤخرًا بدأ يعانى من عدم التركيز وضعف الذاكرة، فكثيرًا ما يتعرض لموقف محرج عندما يقابل شخصًا ما يعرفه ولا يهتدي إلى اسمه، وصار النسيان عادة فينسى أين وضع مفاتيح سيارته، ويخطئ في أسماء أبنائه، ويسهو عن شرب قهوته إلى أن تبرد وتنتهي لذتها.
كانت المشكلة الأكبر لديه أنه يكره بجنون الطبيب الذي يخبره أنه بخير ولا يحتاج لعلاج أو فيتامينات وأن حالته ليست خطيرة، تراه يراقب أعضاء جسمه بشكل مبالغ فيه، ويضخم من كل تغيير يحدث بشكل كارثي فأدمن رؤية المعطف الأبيض؛ بل ويستمتع بحيرة الأطباء بمجموعة أعراض عجيبة تربكهم، وبالرغم من ذلك فإنه لا يظهر عليه أي عرض صحي خطير، يدعي المرض ليظفر بالعناية الزائدة، ثم يضفي عليه لمسة استشهاد وتضحية تغذي روحه المتهالكة، وأنه رجل نبيل يخفي آلامه عن الناس حتى لا يقلقوا، ثم يرسم الألم على وجهه عند اللزوم ثم يخفيها حين لا يراه أحد.
يتابع كافة البرامج الطبية وعلى جميع الأعراض يقول: "هذا أنا بالظبط"، هكذا يضيف كل يوم جديدًا إلى قائمة الإنذارات التي حتمًا سترسل به إلى معهد بحوث الكبد أو القصر العيني، وكأنه يتعامل مع مخلفات الشيطان.
يكتنز أكياس العلاج تحت السرير حتى الفارغ منها لأنه يتوقع أن يحتاجه له فى المستقبل القريب، بهذة الصفات يعمق لديه أحساسًا بأنه مريض جسديًا، فيتحول إلى شخص مزعج وغير مقبول من المحيطين، ويشعِر المقربون منه بالسأم ويهربون من التواصل معه خشية أن يصيبهم بالوهم.
قد يكون لديه تاريخ أسري مأساوي مليء بدخول المستشفيات وإجراء العمليات الدقيقة فلديه معرفة قوية بالمستشفيات والمصطلحات الطبية التي تصف مرضه، والغريب أنه يشعر بارتياح شديد داخل عيادات الطوارئ.
اخترع كثيرًا من المواقف لجذب الانتباه والحصول على الرعاية والحنان وزيادة الاهتمام من قبل المحيطين ويثور حين يستهين أحد بآلامه، ففي مرة ارتفع صوته بصورة مفاجئة، فأتت ابنته مسرعة ومرتبكة وهى تتوقع حدوث كارثة، إلا أنها فوجئت بأن الأمر لا يتعدى سوى جرح بسيط فى أصبعه الصغير من سكين المطبخ.
وعندما قالت إنه جرح بسيط انفعل بشدة ووصفها باللامبالاة، وظل بعدها أسبوعين يربط أصبعه مثل الزعيم فى فيلم "الواد محروس" ويتملكه شعور بالدوخة والغثيان.. هذة ليست المرة الأولى فمع كل حادث بسيط يظل يكرر نفس السلوكيات، أما إذا مرض أحد أفراد الأسرة فإنه يسارع بادعاء نفس المرض، ولكنه سرعان ما يمل ويغادر السرير.
فى الصباح تناول حبة من الشريط الذي يحتفظ به في جيبه ووضعها تحت لسانه، وارتدى ثيابه، وأخذ بطاقة التأمين الصحي، وضع التحاليل تحت إبطه واتجه إلى المستشفى وطلب الدخول إلى عيادة المخ والأعصاب.
أشاروا له على نهاية الطرقة، جلس أمام الطبيبة الشابة وحدثها عما يحدث معه، وأنه قطعًا سيحتاج إلى عمل أشعة مقطعية على المخ، طلبت منه الطبيبة أن يمشي في الحجرة أمامها، أخبرها أن الحجرة صغيرة ولن تكون هناك فرصة لكي أترنح أو أشعر بالدوخة والغثيان أثناء المشي، حينئذ قالت "إطمن هتكون بخير"، عاد للجلوس أمام مكتبها الصغير جلست تكتب له ورقة بالدواء، حاول أن يستقيم بظهره كي يرى كم صنفًا أوصت به الطبيبة؟ وقال "نوعين بس!!" ثم تناول الورقة وطواها بفتور ووضعها في جيبه العلوي وانصرف.