نحتفل نحن المصريين جميعًا هذه الأيام – مع مليارات البشر حول العالم - بعيد الميلاد المجيد، وهو العيد رقم 2022، وتتداعى إلى ذاكرتي مواقف ومشاهد عديدة كنتُ شاهدًا عليها عبر نيف و54 عامًا هي سنوات عمري حتى كتابة هذه السطور.
والبداية حكاها لي والدي أنني ولدتُ قبيل صلاة الجمعة يوم 15 من ديسمبر عام 1967 ميلادية، الموافق ليوم 14 رمضان 1387هجرية وكان يجاورنا "عم البرت" – صديق العمر لوالدي -، فهو الذي قام – وزوجته الكريمة - بدور والدي في استقبالي للحياة والعناية بوالدتي مع الداية " أم عبد الودود ".. وباقي أخواتي البنات حينها حيث كان أخواي جمال وعاطف في الصلاة مع والدي.. ثم أتي والدي بعد فراغه من صلاة الجمعة، وقد تمت الولادة على خير بحمد الله، ثم استكمل عم ألبرت مهمته مع صديق عمره، بأن اختار لي اسم " خالد " على اسم نجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله، وهو ذات الاسم الذي كان والدي قد اختاره لابن عم ألبرت قبل ثلاث سنوات قبل ولادتي، وظل عم ألبرت وأسرته في منزلنا حتى موعد إفطار المغرب، وتناولوا " فطار صيامي " أعدته لهم خالتي فوزية (رحمهم الله جميعًا).
وفي صباح يوم السبت 16 من ديسمبر 1967، رافق عم ألبرت والدي في تسجيل اسمي في مكتب الصحة واستخراج شهادة ميلادي.
ومن ثم كان عام 1968 هو أول عيد ميلاد مجيد لسيدنا عيسى عليه السلام، أمضيتُه – وأنا طفلٌ رضيع 23 يوم - مع أسرتي كاملة في كنيسة جرجا محافظة سوهاج، ثم الفطار في منزل عم ألبرت مع أسرته كاملة كذلك.
ومن عم ألبرت إلى عشرات الأصدقاء لي ولأسرتي عبر سنوات الدراسة في جرجا ثم مدينة فرشوط محافظة قنا، موطن أهلي، والتي انتقلنا إليها وأنا في الصف الرابع الابتدائي، وكانت مدارس الراهبات هي المدارس المميزة في ذلك الحين، حيث يلتحق بها المسلمون كذلك لا فرق بينهم وبين إخوتهم المسيحيين، والجميع يحتفلون بعيد الميلاد المجيد في توأمة مصرية وطنية أصيلة.
ومن أروع الذكريات في تلك المراحل الدراسية، ناظر المدرسة الإعدادية "الأستاذ ألبرت كذلك!!".. وكان حاسمًا حازمًا وفي ذات الوقت رؤوفًا رحيمًا بالجميع.. ومنه تعلمتُ الكثير، وكنتُ ومنذ الصف الثاني الإعدادي وحتى المرحلة الثانوية، رئيسًا لاتحاد الطلاب، والمسئول عن الإذاعة المدرسية كذلك، فكانت المناسبات والأعياد جميعها سواء، إلى الحد الذي كان فيه طلاب المدرسة وطالباتها يتسارعون إلى المشاركة في أعياد الميلاد المجيد.. وأتذكرُ جيدًا أبله "سهير العقاب" الاخصائي الاجتماعي بالمدرسة، وهي تنتمي لكبريات العائلات المسيحية في فرشوط، أصولا وعزوة وملاكاً للأراضي والعقارات.. وجمعتني بها وبأسرتها جميعها علاقات تعليمية ومشاركات مجتمعية وطيدة، فكانت وقتها رحلات المدارس إلى الأقصر والمزارات السياحية في مصر من أهم الأنشطة، والتي توازي في أهميتها وتقييمها الحصص والمقررات الدراسية، وكان القاسم المشترك في كل هذا أننا مصريون لافرق نهائيًا بين الجميع بسبب الدين والعقيدة.
وفي جامعة أسيوط، حيث تلقيتُ تعليمي الجامعي في كلية الحقوق، أذكر بكل الفخر والاعتزاز الأستاذ الدكتور وهيب عياد سلامة أستاذ القانون الإداري والدستوري (رحمه الله).. وعشرات من الأصدقاء والزملاء والزميلات سواء من أهل أسيوط أو القادمين لها للدراسة، وفي كنائسها وأديرتها التاريخية العريقة، قضيتُ أجمل أعياد الميلاد المجيد وأروعها، لعل من أهمها دير العذراء في درنكة بجبل أسيوط، ويعتبر من أهم المعالم السياحية الهامة في البلاد المصرية يقصده الآلاف من الزائرين أجانب ومصريين على مدار السنة ليتعرفوا على المكان الذي انتهت اليه مسيرة العائلة المقدسة، ومنه بدأت رحلة العودة، ولقد تجلت السيدة العذراء بصورة نورانية وما زالت تظهر بين الحين والآخر في هذا الدير المبارك حيث يجد الناس الهدوء والراحة والسلام والمسرة.
ومنذ بدايات التسعينيات وحتى اليوم، أحرصُ على مشاركة إخوتي المسيحيين الكرام، أعياد الميلاد المجيد، في مختلف أديرتها البالغة أكثر من 55 ديرًا، فضلا عن مئات الكنائس في مختلف أنحاء مصرنا الغالية، تارة في البطريركية الأرثوذكسية الأم في العباسية، أو الكاثوليكية في مدينة نصر، أو غيرها.. وتارة أخرى في كنيسة الأنبا سمعان في جبل المقطم، وأديرة وادي النطرون والتي تعد من أهم المدن التي احتمت بها العائلة المقدسة خلال زيارتها لمصر والتي ظهرت فيها الرهبنة، على مدى العصور، والتي أصبحت مزارًا سياحيًا دينيًا يحرص على زيارتها الكثير من جميع بلدان العالم، ومؤخرًا - ومنذ 6 يناير 2019 - في كاتدرائية ميلاد يسوع المسيح في العاصمة الإدارية الجديدة وهي المقر البابوي الأخير في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية.
وفي خارج مصر، شاركت في أعياد الميلاد المجيد في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان في قلب روما عاصمة إيطاليا، وتعد مدينة الفاتيكان أصغر دولة مستقلة في العالم ومقر القيادة الروحية لكنيسة الروم الكاثوليك، وكذلك في عديد من كنائس مدينة فيينا عاصمة النمسا وطرازاتها المتنوعة بين الجوتي والباروكي والرينيسانس، ويقينًا في باريس مدينة النور، ولاهاي مدينة العدالة الأولى في العالم، وبروكسل العاصمة السياسية للاتحاد الأوربي، ونيويورك قلعة الحضارة الأمريكية الحديثة، ونادرًا في بوادبست عاصمة المجر، وبعض عواصم أوربا الشرقية، وأخيرًا في دير العذراء مريم بجبل حريصة في بيروت عاصمة لبنان وهي على قمة الجبل ونصل إليها من خلال التليفريك.
وفي هذا العام 2022، أترقب بشغف مشاركة المصريين عيدهم بمولد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، في أجواء المحبة والأخوة الإنسانية، في ظل الجمهورية الجديدة، التي بدت معالمها واضحة جلية، تسر الناظرين، وتعيد للعالمين، مجدها وحضارتها وريادتها.
كل عام ونحن المصريين بخير.. في عيد الميلاد المجيد.
[email protected]