راديو الاهرام

شريف سعيد يكتب: حدث في القرن الثامن عشر (2)

2-1-2022 | 18:04

"اعلم أن الإنسان لا يستطيع في باريس شيئًا إلا بمعونة النساء"، هكذا أسدى أحد القساوسة نصيحته للفيلسوف "جان جاك روسو" الذي كان بذلك الوقت شابًا بفرنسا الملكية، لقد عمل روسو بالنصيحة واستطاع بحلو منطوقه التغلغل بمجالس الباريسيات النافذات.

لكنه ورغم تمرغه بفراش العديدات منهن، لم يرق له إلا "تريز" الجاهلة الغسَّالة التي صارحته بعدم عذريتها، فأحبها وشاركته الحياة. يقول: "ولست أخجل حين أعترف أنها لم تحسن أبدًا القراءة. وكثيرًا ما رأت ما لم أره". روسو في حِضن تريز رُبما عثر على الإنسان وفطرته الأولى قبل صخب المدنية.

روسو منذ البدء كان خجولًا غير محب للشهرة والحيوات الفارهة، حتى أنه وعقب تأليفه رواية "نارسيس" و"الشيطانات الرقيقة" التي مُثلت كأوبرا موسيقية بالبلاط الملكي، رفض دعوة لمقابلة الملك، رغبة منه بحياة زاهدة هادئة والكتابة جوار تريز ولا بأس من أخريات لأجل البقاء.

لكن الصخب أتاه رغم أنفه بالسابعة والثلاثين من عمره، حين جلس بظل شجرة يُقلب مجلة "المركير دفرانس"، لتقع عيناه على إعلان أكاديمية "ديجون" وجائزتها لأفضل مَن سيكتب حول ما إذا كانت العلوم والفنون قد أصلحت أخلاق الإنسان أم أفسدتها. يُدون روسو عن لحظة مطالعته الإعلان: "وساعة قرأت هذه المسألة رأيتُ عالمًا آخر وأصبحتُ رجلًا آخر".

متفلسفًا وعقب تدبر كل ما حوله عام 1749، رأى روسو أن المدنية الحديثة بعلومها وفنونها أوجدتْ بالمجتمعات ترفًا مبالغًا فيه، مما عمق التفرقة وعدم المساواة بين البشر، فإن أردنا السعادة فلنحاول الرجوع لطبيعتنا الأولى، لأخلاقنا الفطرية، حين كنا جميعًا متساوين قبل زيف المادة. يقول روسو: "يطعم الترف مائة فقير في مدننا ويكون سببًا في هلاك مائة ألف في القرى". نال روسو بخطابه الرومانسي التمردي جائزة الأكاديمية، فُتحت عليه بعدها أبوابٌ كان من بينها باب الجحيم.

لم يعد روسو قبل الجائزة كما كان بعدها. أثار جدلًا واستحال يُشار إليه حين يمر، مست كلماته الثائرة رغم عدم متانتها، قلوب مَن عانوا وطأة العرش والنبلاء وكهنة الدين. وبحقبة تهافت البشر فيها على مجالس الأكابر، شرع روسو يتقوقع أكثر متخليًا عن كل ما لا ضرورة له. أرخى لحيته وارتدى ثيابًا بسيطة معتزلًا الصخب، فلم يزدد بعيون الناس إلا إعجابًا وتساؤلًا عن "الرجل الغريب الذي لا يبحث عن أحد ولا يهتم لشيء إلا أن يعيش حرًا سعيدًا". تكالب عليه الجميع حتى قال: "ليس من السهل أن يكون الإنسان فقيرًا مستقلًا على نحو ما كنت أتصور".

محاولته اعتزال الدنيا لم تجلب له سوى مزيد منها! يقول: "ولجأت السيدات إلى حيل لا آخر لها لأكون على موائدهن في العشاء"، حتى إن إحداهن قررتْ أن تبني له داخل حديقة قصرها بيتًا مطلًا على الغابة الخلابة، يضمه ورفيقته تريز، كي يتفرغ للتأمل والكتابة وصناعة الحب، غير أن تلك الصناعة في أي مرة لم يُتح لها منتج بشري يحمل اسم روسو! لمَ لا وتريز لم تكف عن الحبل، كذلك لم يكف هو عن وضع أبنائه منها ملجأ اللقطاء! لم يرد "كما تصور" أن يُتعس أولاده بالشقاء معه والتشرد!
 
المُدهش أن حدس روسو بالشقاء والتشرد كان صائبًا! كتبَ روسو فيما بعد أشهر كتبه لكنه فعل ما لم يفعله زميله الفيلسوف الفرنسي فولتير. روسو كان أكثر جسارة لكن فولتير كان أكثر حنكة، وبدا أن عش الأساقفة كان عشًا للزنابير! هذا وأكثر دونَّه الأديب المصري د/ محمد حسين هيكل بكتابه عن الفيلسوف (جان جاك روسو.. حياته وكتبه)، وللحديث بقية.
 
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر: twitter.com/sheriefsaid

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة