فنون صناعة المنسوجات والملابس والأحذية ميراث مصري عميق عزفته الأيادي حتى عصر محمد علي باشا، الذي قرر أن يتعلم أولاد الأهالي أسرار الصناعة الحديثة حتى يتفوقوا على الأجانب.
في الزمن البعيد، أتقن أهل تنيس، إحدى بوابات مصر الشرقية، وهي بالقرب من الفرما وبحيرة المنزلة، صناعة المنسوجات والملابس فكانوا هم فقط من يستطيع حياكة ثوب من الكتان الخالص بجودة عالية، ويقال إنهم صنعوا للخليفة ثوبا من خيوط الذهب مخلوط بقليل من الكتان وكان سعره ألف دينار وهو بالطبع باهظ الثمن، كما انفردت تنيس بصناعة كسوة الكعبة المشرفة على مدى قرون طويلة حتى القرن العاشر الميلادي.
وبسبب موقعها على ساحل البحر، كانت معرضة دائمًا لهجمات البيزنطيين ثم الصليبيين، لذا أمر صلاح الدين الأيوبي بإخلائها من أهلها سنة 1192م، ومن بعده الملك الكامل محمد الذي أمر سنة 1227م بهدم أسوارها وحصونها ومساكنها ومصانعها وأسواقها الشهيرة فأصبحت أطلالا.
مع بداية القرن التاسع عشر بدأت مصر تشهد نهضة كبرى في كافة مجالات الحياة، وحدثت لها طفرة هائلة، واستطاع أهلها تحقيق ذاتهم وإثبات وجودهم ونجاحهم في شتى الميادين.
كانت صناعة المنسوجات والملابس والأحذية من الحرف التي حظيت باهتمام بالغ، وعلى مر الأزمنة تطورت بشكل ملحوظ حتى وقتنا هذا، حين شرع محمد علي باشا في نشر هذه الصناعة على الطريقة الأوروبية المتطورة في مصر، فأنشأ 22 فابريكة "مصنع" في قبلي وبحري لصناعة المنسوجات بجميع أنواعها القطن والحرير والكتان والجوخ والقطيفة، وصناعة الملابس والصباغة والأحذية وصناعات أخرى لم يكن لها نظير في مصر.
ولتشجيع الأهالي الكبار منهم والصغار على العمل في ورش الصناعة كانت لهم أجور مغرية، ولتحفيزهم على المنافسة أمر محمد على بصرف 50% من أرباح المشغولات لمن يبدع من "الأسطوات" في الصناعة، كما صدر أمر منه بجمع ألف من أولاد الأهالي وتوزيعهم على فبريكات الخرنفش والسيدة زينب وبولاق خلال 10 أيام وإعطائهم الأجرة المستحقة كل جمعة لترغيبهم في المواظبة.
كما أصدر أمرًا بجمع أنواع الحياكة وكل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على نول من حرير وكتان وخيش وحصير في سائر الأقاليم المصرية بغرض جمع هذه الصناعة وإنشاء ورش متخصصة لها، لصناعتها طبقًا لقواعد وأصول يتعلمونها من الأجانب الموجودين في مصر، ومن المصريين العائدين من البعثات إلى أوروبا.
فلم تقتصر البعثات التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا وإنجلترا على الطب والهندسة والترجمة فقط، لكنها شملت صناعة المنسوجات والملابس وضمت حرفيين لتعلم أصول الحرفة ومنها صناعة الأحذية، فإلى فرنسا تم إرسال اثنين من كل صناعة لتعلمها وإتقانها وشملت هذه الصناعات الصباغة ونسج الحرير والأحذية والشيلان الأنقرية والجوخ وأربعة لتعلم صناعة جوخ العباءات.
وإلى إنجلترا تم إرسال اثنين لصناعة المفروشات و11 أسطى من ورش الحرير لإتقان صناعتهم، وبعد عودة من تعلم صناعة الأحذية تم تعيينه "أوسطى" على عموم ورش الأحذية بمصر لتعليم هذه الصنعة للعاملين بالورش.
ومع مرور الزمن أصبحت مصر مقصدًا للكثيرين من العرب والأجانب لشراء احتياجاتهم من المنسوجات والأحذية، وكانت مصر في الفترة من العشرينيات وحتى الأربعينيات من القرن الماضي مصدرًا لأرقى الأزياء والموضات العالمية.
هناك رواية توضح شدة إعجاب الخديو إسماعيل بالصناعة المصرية وتشجيعه لها، ومدى اعتزازه وتمسكه بالاستعانة بها عند زواج أبنائه، حين قال "إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع ولا تستفيد من أفراح أولادي، فمن أفراح من تستفيد وتنتفع؟!!
هذا ما قاله الخديوي لناظر الخاصة الخديوية عند زواج أبنائه الأمراء توفيق وحسين وحسن والأميرة فاطمة 1873م، وهو ما عرف "بأفراح الأنجال"، فعند الاستعداد لزواجهم كلف ناظر الخاصة الخديوية عددًا من المحال التجارية بتقديم مناقصات لتوريد ما يلزم من مفروشات وبياضات ودنتلا لجهاز العرائس، وتقدمت جميع المحال بما لديها من بضاعة وأسعارها، ووقع اختيار الناظر على مناقصة تقدم بها محل "باسكال" بالقاهرة وكان محلًا فرنسيًا شهيرًا في مصر حتى 1892م تمتاز بضاعته بالجودة ورخص ثمنها، تم عرض ذلك الاختيار على الخديوي الذي سأل الناظر ألم يتقدم للمناقصة محل مصري وطني مطلقا؟ فأجابه، بل تقدم محل "مدكور" ولكن أسعاره تزيد 25% على أسعار محل باسكال.
فطلب إسماعيل الاطلاع على نماذج بضاعته فوجد أنها نفس البضاعة، فرفض مناقصة باسكال، وأمر بأخذ كل ما يحتاجونه من محل مدكور ودفع له 25% فوق ما طلبه قائلًا عبارته السابقة.