د. محمد حسين أبوالعلا يكتب: من صعدوا للشمس ومن غاصوا في جوف الأرض!!

30-12-2021 | 16:54

سنوات ضوئية تفصل بين أحوال البشر على الأرض، وأكثر من ذلك ما يفصل بين طبائع العقول في مراميها وغاياتها، فهناك عقول تحلق وأخرى تهوي، عقول لها بريق أخاذ وأخرى مطموسة توغل في الوهم، عقول تسعد بالإرادة والتحدي وأخرى تستمسك بالضباب.. واحدة تخترق وأخرى ترتد. 

إنها معادلة المستحيل طرف يعشق تفكيك الخوافي والطلسمات وطرف يستأنس بالمسلمات ويخلد إلى السكينة ويزعم امتلاك اليقين، إنها المعركة الحضارية الكبرى بين فقه الواقع وفقه الخيال، منطق أحد أبطالها هو الأخذ بأسباب الحياة بينما الآخر يدأب وراء أسباب العدم!!

فرغم ما للشرق من تجربة تاريخية عتيدة في العلوم والآداب والفنون إلا أن المؤامرة على الماضي هي القضية التي تحتمل التعريض والتخطيئ والتقريع باعتباره ميراثًا بائدًا، بينما ظل اقتحام الأفق المستقبلي هو القضية المشتعلة في عقل الغرب، ومن ذلك كانت الانطلاقة العلمية الإعجازية التي فاقت أحلام العلم، إذ أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) إن "مسبار باركر" قد أصبح أول مركبة فضائية تدخل الغلاف الشمسي الذي يعرف باسم الكورونا، وفي رؤية العلماء هي لحظة هائلة تغير الكثير من معطيات علوم الطاقة الشمسية وتزود برؤية أعمق لمدى تطور نظامنا الشمسي وتدفع نحو التراكم المعرفي عن النجوم في أجواز الكون، كما أن استكشاف هذه المنطقة يساعد كثيرًا في فهم الانفجارات الشمسية التي تتداخل مع حياتنا على كوكب الأرض.

يحدث هذا هناك، لكن قومنا لاهون عن الحاضر بتأزماته وعن المستقبل وخطورته، وماذا يعني هذا الحاضر وذاك المستقبل قياسًا بالتوجه نحو الماضي لكن ليس إجلالًا وتوقيرًا، وإنما غض وازدراء وذريعة من لا يعي تحورات الزمان وأشواطه، ولا الفواصل المعرفية عن كنه مساراته، ولا تاريخية الأفكار وحداثتها. 

يسيرون نحو التبرؤ المطلق من التراث وهم قعود يتجنبون التعامل مع اللحظة ويتهيبون الخوض في تلافيف عالم المستقبل؛ لأنهم لا يجيدون أيًا من لغاته، فكيف يؤكدون ذاتهم المهيضة بغير طرح قضايا مستهلكة لا تستوجبها مقتضيات العقل الصحيح، هم ينهالون تشريحًا وفتكًا زاعمين لأنفسهم امتلاك رؤية تنويرية، بينما ينقصهم التكوين المعرفي وملكات التجديد وأسس الابتكار وعمق التجربة ومرجعيات التأصيل ومنطقية الفكر، إذ تحكمهم النوازع الذاتية وإرادة التفضل وإبراز الدور الأسمى وإشاعة مدى التقدمية، هم عشاق الرأي ونقيضه والأفكار وأضدادها والموقف وخلافه، لا تستقر عقولهم إلا في ظل التناقض. 

يتعاملون مع التراث العربي والديني منه بشكل أخص باعتباره تاريخًا هزليًا عشوائيًا أسطوريًا، من ثم يتبنون معه منطقًا عدائيًا لا منطقًا حواريًا جدليًا يعتصم بالدلائل والبراهين ويفند الأوهام وينشد الحقائق، إنما يوجهون سهم الاتهامات لكافة التفاسير القرآنية وأشهر كتب الحديث والفقه، بينما الرسالة التنويرية للمثقف إنما تقتضي أن يتساءل بما يثير العقل دون تشويه الآخر، وأن يقدم من عندياته منظومة ريادية جديدة لها دعائم موضوعية فاعلة في تجديد الخطاب الديني السائد، والذي هو بالضرورة ينبغي أن يواكب حركة التطور الإنساني، لكن كيف يحدث هذا وهم لا يعترفون بثوابت الدين، ولا يفقهون شيئًا من حركة التطور الإنساني من منطلق القناعة بالحصيلة المعرفية التي تكتنز في عقولهم، فإذا لم يكن لديهم مشروع فكري لإنهاض الوعي فليس لهم إلا أن يقرأوا تلك الملاحم الفكرية التي خطها جبابرة الاستشراق لتكتمل لديهم أبجديات الفهم والاستيعاب والتأويل والاستدلال والتنظير وأخلاقية العلم. 

لا يلتمسون في التراث الديني إشراقاته، وإنما يتهالكون بحثًا عن نواقصه، متجاهلين أن الرؤى التي ينتقدونها في هشاشة هي رؤى تاريخية ارتبطت بمعطيات زمانها وطبيعة حركة العلم فيه، وعلى ذلك يصبح القياس على مدى صحتها أو خطئها – بعد قرون – ممثلًا لنوع من الهرطقة الفكرية؛ لأن المبدأ العام إزاء النص الديني أنه كلما ارتقت حركة العلم أمكن تفسيره وفهمه على نحو أعمق، وهو ما يتجلى في المقارنة بين أقدم التفاسير وأحدثها. 

وهناك الكثير من النماذج الأوروبية التي اعتدت كثيرًا بالتراث العربي اعترافًا بقيمته وثرائه وعلميته، بل إنها أوقفت تقدم الأمم الأوروبية على مدى انغماسها في العلوم العربية، ومن تلك النماذج بابا الفاتيكان "سلفستر الثاني" الذي أعطى أوامر صارمة بضرورة ترجمة الكتب والمخطوطات العربية، حتى إنه قد أطلق عبارته الشهيرة (أنه لا يمكن لأوروبا أن تتقدم إلا بمعرفة علوم العرب)، وكذلك "جيرار دي كريمونا" الناقد والمترجم الإيطالي للعلوم العربية الإسلامية في القرن الثاني عشر الميلادي، وآخر هو "ريتشارد اتنجهاوزن" الذي تجاوزت كتاباته عن الفن الإسلامي والحضارة العربية نحو الثلاثمائة مجلد وأيضًا المستشرق الإسباني "جوزيف فان إس" المتجاوز لنحو مائة مؤلف عن الدراسات الإسلامية. 

وعلي ذلك يطل الفارق النوعي خلال مصطلح المديرقراطية والذي يعني في جوهره أن يتصدر المشهد الثقافي عديمو القدرة على التفرقة بين الأفكار الرائدة والثقافة المتراجعة غير ذات القيمة المنبثقة عن الغيبوبة الفكرية واختلال الجهاز المفاهيمي.

إن التنكر للماضي إنما يعد خطيئة ثقافية قومية لأنه بالطبع ينسف أحد أهم أركان الهوية التاريخية ويمثل إخفاقًا مباشرًا في التعامل النزيه مع المتوالية الزمنية ومطعنًا للشعور الديني المتربع في أغوار الشخصية المصرية، فمن ذا الذي يستطيع أن يزعزع هذا الشعور وهو يشكك ويكذب ما لم يستطع الإحاطة بعلمه؟!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: