راديو الاهرام

د. مجدي العفيفي يكتب: أوراق منسية (2)

29-12-2021 | 14:48

هل نحن نعيش في عصر الإفلاس؟ 

 (6)
 في أي عصر من التاريخ نحن نعيش؟ هذا السؤال الذي تتخذ منه هذه السلسلة مادتها، ليس ترفيهيًا ولا من الكماليات؛ بل هو جوهري جدًا، وتجاهله أو النظر إليه على أنه من الأشياء التجميلية أو أنه سؤال من قبيل التسلية الفكرية.. يشكل طامة وجودية جديدة.. ومن بعض ما يسفر عنه من تخبط ببوصلة المجتمع واهتزازه وابتزازه، وتجميده وتهميشه.. حالة التوهان التي تغشانا ونتعمد غض الطرف عنها هذه الآثار الدرامية والدامية، التي لا تزال تنشب أظافرها الوحشية، في هذه المرحلة من التصنيفات المذهبية الضيقة.. هذا ليبرالي.. وهذا ماركسي.. وذاك إخواني.. وسلفي.. وتراثي.. وحادثوي.. ويميني.. ويساري .. متدين ..لا ديني.. ملحد.. علماني.. أصولي..و..و... كل هذه العائلة المسمومة فكريًا، حتى جعلت لغتنا قديمة بالية كأحذيتنا القديمة، وخطاباتنا تائهة.. هشة.. محنطة.. مغشي عليها من التوهان في عصر الاستعارة.. كما ذكرت في الفاصلة الأولى من هذه الورقة المنسية لمفكرنا العظيم الدكتور "حسن حنفي" أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، والذي رحل عنا قبل أسابيع، بعد أن لعب دوره الخلاق في تحريك العقل العربي والواقع الديني بثورته الفكرية عبر مؤلفاته النارية والنورانية.. والتي ستظل مشتعلة لأمد بعيد..

وقد تساءلت باستنكار أكثر من الاستفهام في المقال السابق: نحن نعيش نعم، لكن ما الذي يحدث حولنا.. ويحدث لنا.. ويحدث منا.. ويحدث فينا..؟ من نكون..؟ أين نحن..؟ وماذا نمثل.. وأين الزمن الذي كان يتمثل بنا فيه؟ حتى إذا عثرنا على تحديد للعصر الذي نعيش فيه.. فكيف نحياه.. هل نحن ضحاياه.. أم ضحايانا؟ عصر بأية حال أنت يا عصر؟ إذا كان السؤال نصف الجواب.. وإذا كانت ثقافة الأسئلة هي سيدة الثقافات.. وهي التي أنجبت الحضارات عبر التاريخ.. فهل يمكننا أن نجيب؟

في هذه الفاصلة يجيب مفكرنا الثوري وعبر سطور جديدة من ورقة منسية سجلتها معه، واختزنتها الذاكرة الإلكترونية التي ازدحمت في السنوات الأخيرة بالكثير من الأحداث التي تمايزت بأن متغيراتها أكثر من ثوابتها، وهذه ظاهرة مؤلمة ترشح مجتمعها، ليكون نزيل العناية المركزة، إذا استمرت على هذا المنوال.

(7)

في أي عصر من التاريخ نحن نعيش؟ 

يضيء الدكتور "حسن حنفي"، وكان في أوج المحطة العمرية الأخيرة لقطار حياته الثرية التي وهبها الرجل بكل ما يملك، لخدمة الفكر الإسلامي المستنير، بتجلياته وعظمته وقدرته.. بصيرورته وسيرورته وكينونته.. كما أشرت آنفا، رغم أنف الظلاميين والانهزاميين والمخذولين والحاقدين والمتنطعين..!.

يستدعي المفكر الكبير ومضات تاريخية وصولًا إلى اللحظة العصرية الراهنة إذ يقول: في الحقيقة إن هذا السؤال قد طرح منذ عدة عقود من الزمان، وبطرق متعددة، خاصة بعد قيام النهضة العربية الحديثة، بتعثرها مرة وتقدمها مرة أخرى، وبعد تقدم الحضارة العربية، واختلاف التاريخين الهجري والميلادي، والحكم بأننا نعيش عصر العلم والتكنولوجيا، وأننا مازلنا نركب الحمير والجمال، وبالتالي برز السؤال: في أي عصر من التاريخ نحن نعيش؟

ويبدو أن هناك عدة عصور، وعدة تواريخ، قد يوجد إنسان أو حضارة على نحو متزامن من إنسان أو حضارة أخرى ومع ذلك لا يوجدان في عصر واحد، فالأوروبي والعربي، والإفريقي كلهم متزامنون، ولكن هذا يعيش عصر القيادة، وذلك يعيش عصر الغابة والصحراء، وبالتالي فالتاريخ كوعي حضاري، تختلف آثاره من حضارة إلى حضارة، ومن شعب إلى شعب.

 (8)
وبالنسبة لنا في العالم العربي.. ماذا ترى مفكرنا الثوري؟ هكذا جاذبته في هذه الحوارية.. إنه يقول منذ مائتي عام لو سألنا هذا السؤال لقيل أننا نعيش ربما في عصر بداية النهضة العربية الحديثة أو بداية الاستقلال عن الدولة العثمانية، وعلى أعتاب نهضة جديدة لنشأة الدولة العربية المستقلة، في مصر أو في الشام.. واستمر الأمر كذلك حتى بداية الاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية ثم بداية الحركات الوطنية، ومن ثم يمكن أن يقال أننا لم نعد في فجر النهضة العربية، ولكننا في عصر التحرر من الاستعمار، فقد أتى الاستعمار إلى مصر عام 1883، ثم في تونس عام 1883، ثم في الجزائر، واحتلال العالم العربي وبدأت الحركات الوطنية ولذلك تأتي الاجابة الثانية نحن نعيش عصر التحرر من الاستعمار.

ثم بعد ذلك.. جاءت الثورة العربية الحديثة منذ حوالي سبعين عامًا، أو أقل أو أكثر، وبخاصة الثورة العربية عام 1952، وبالتالي جاءت الإجابة على هذا السؤال، تبدو وكأنها تقول نحن نعيش في عصر الثورة، لسنا في فجر النهضة العربية، ولا في عصر التحرر الوطني، ولكننا نعيش عصر الثورة العربية، وخصوصا بعد قيام القومية العربية، بدءًا بتأميم قناة السويس، وتحول جمال عبدالناصر إلى بطل قومي عربي، ثم الوحدة مع سوريا، وثورة العراق، وثورة اليمن، ثم استقلال الشمال الإفريقي، فنحن في هذه الفترة خلال المد الثوري في الخمسينيات والستينيات نعيش في عصر الثورة.. ثم تعثرت الثورات وأجهضت من دخلها.

وبعد ذلك نشأت أجيال جديدة، يصعب عليها أن تجيب أننا في عصر الثورة، فهي ترى أن الثورة قد انقلبت على عقبها.. ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية، من مجانية التعليم إلى الانفتاح الاقتصادي، من أولوية القطاع العام إلى أولوية القطاع الخاص، من الإصلاح الزراعي إلى نوع من العودة إلى الإقطاع الريفي، وبالتالي يمكن القول بأننا لسنا في عصر الثورة، بل في عصر الثورة المضادة.

(9) 
البعض يرى أن الثورة لغز كبير، وبالتالي يستسحن القول ـ في العقود الثمانية الأخيرة، خاصة أن الثورات العربية قامت بها الجيوش العربية ولم تساهم فيها الشعوب العربية(!!) لكن ماذا ترى وأنت المفكر ذو العمق الفلسفي المتلاحم بالواقع ورغم «حصار الزمن» طبقًا لعنوان كتابك الرائع والمروع؟

هو يقول: إننا نعيش في عصر التغير الاجتماعي، ومع أن الثورة والتغير الاجتماعي رمزان كبيران إلا أن التغير الاجتماعي هو الأدق، وأن من أهم إنجازات الثورة إحداث تغير اجتماعي جذري في الشعوب العربية.

ولكن .. ازدادت الأزمات ولم تعد تحرك العرب، ويبدو أن الفكر العربي لايزال مستمرًا في عدم قدرته على مواكبة الأحداث الجديدة، وخلق مفاهيم جديدة قادرة على أن تجعله قادرًا على تحريك الجماهير.

بعض المتشائمين قالوا إنما نحن نعيش في عصر الإفلاس، عصر التهرؤ والضياع، عصر تهميش العرب وإخراجهم من المركز، والعالم يرتب لهم، فإذا ما استيقظوا يكون الترتيب قد تم، ويقال لهم إن القطار قد فاتكم، صحوتم متأخرين!

(10)
لكن المفكر "حسن حنفي" أعلن أنه بالرغم من التعثر الحالي للحضارة الاسلامية، فهي مرشحة إلى أن تكون في الخمسمائة سنة القادمة ذات فضل ريادي وتقود مسار التاريخ العالمي.

كيف..؟ ما هي البراهين..؟ أين البينات..؟ 

في الأسبوع المقبل نكمل هذا المنظور الثوري للمفكر العظيم "د. حسن حنفي"، في هذه الكتلة السردية، بلغتها ذات الأعماق البعيدة.. إن كان في العمر بقية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة
خدمــــات
مواقيت الصلاة
اسعار العملات
درجات الحرارة