راديو الاهرام

محمد الشاذلي يكتب: 1922

29-12-2021 | 12:07

كان عام 1922 ـ قبل مائة عام من الآن ـ استثنائيًا في تاريخ مصر الحديث.. فقد تحولت مصر من "سلطنة" تتبع العلم العثماني إلى "مملكة" مستقلة، وكان الجميع يعرف أنه استقلال منقوص، لكنها كانت خطوة مهمة على الطريق الطويل، حيث نفضت عنها احتلالًا عثمانيًا دام 400 سنة.

كانت ثورة 1919 قد حققت الكثير، وبرهنت على قدرات الأمة في البعث من جديد، وعلى إمكانات هائلة للمصريين في العمل السياسي، الإداري، الاقتصادي، وفي التعليم، خصوصًا مع الأجيال الجديدة، وأبانت عن قدرة المصريين ورغبتهم في حكم أنفسهم، وهو الأمر الذي كان اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر من 1883 إلى 1907، يراه "بعيدًا  جدًا" و"لا يمكن أن يتأتى إلا بعد مرور جيل أو أكثر من جيل" ووجهة نظره، كما شرح في كتابه "مصر الحديثة" هي استمرار الاحتلال، لأن "المصريين لا يصلحون لحكم أنفسهم".

وتأسف كرومر لأنه لاحظ أن المصريين مثل البنجاب لا يعترفون بالجميل، واستخدم تعبير سياسي بريطاني عمل في الهند حيث كتب: "المريض تعافى الآن وأصبح يجد الطبيب عبئًا عليه"، وقال في حفل وداعه في دار الأوبرا إنه لم يجد من المصريين سوى نكران الجميل، وإنهم لا يبصرون فضل الاحتلال مع أن أولاد العميان يولدون عادة مبصرين. (وتوفي كرومر في يناير 1917).

بدأ العام الجديد 1922 والزعيم سعد زغلول في المنفى في جزيرة سيشل بالمحيط الهندي، والذي بدأه قبل شهر واحد، ولن يعود سوى في العام التالي، ومع ضغوط الحركة الوطنية أعلنت بريطانيا استقلالًا أحادي الجانب لمصر، وأصدر ممثل الحكومة البريطانية في مصر اللورد اللنبي، تصريحًا في 28 فبراير، منهيًا الحماية البريطانية على مصر التي بدأت 1914.

وفي أول مارس كلف السلطان فؤاد الأول، وقبل إعلان الملكية رسميًا، عبدالخالق باشا ثروت تأليف الوزارة الجديدة، ومن مهامها إعداد مشروع دستور البلاد (دستور 23)، وأصدر السلطان في 15 مارس إعلانًا إلى العالم: "أن مصر منذ اليوم دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لأنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر". 

وفي نفس اليوم أبلغت الخارجية البريطانية الملك فؤاد الأول أن روح تصريح 28 فبراير تقضي بإعادة وزارة الخارجية المصرية، وكانت قد ألغيت عند فرض الحماية، وهو اليوم الذي تحتفل فيه الخارجية بيوم الدبلوماسية المصرية.

واحتفل المصريون بإسقاط الحماية وإعلان الملكية في مسجد محمد علي بالقلعة، وبإطلاق مائة مدفع ومدفع في الإسكندرية، لكن الاحتفالات كان فيها غصة لدى الناس الذين لم يرحبوا بالاحتفالات بإعلان فؤاد ملكًا، بينما الزعيم سعد زغلول ما زال في المنفى.

ثم اندلعت "معركة النشيد"، فقد أقامت لجنة ترقية الأغاني القومية برئاسة جعفر باشا والي احتفالًا في نادي الموسيقى العربية في 24 مارس 1922 لرفع الذوق المتدهور في الأغاني وكلماتها الخليعة، وسبل مواجهتها، وقررت اللجنة عمل نشيد وطني جديد لمصر، بدلا من النشيد الخديوي والنشيد السلطاني، وهما من وضع الإيطالي فردي صاحب "أوبرا عايدة"، وأقامت مسابقة تقدم لها 56 شاعرًا، ورفض أحمد شوقي وحافظ إبراهيم التقدم، لكن اللجنة أقنعت شوقي بالتقدم؛ بينما أصر حافظ على الرفض؛ لأنه من بين أعضاء لجنة التحكيم، واختارت في النهاية قصيدة "بني مصر" لشوقي، وفاز باللحن سيد درويش.

وكان من بين الشعراء المتقدمين مصطفى صادق الرافعي الذي رأى أن نشيده أفضل، وأن اللجنة جاملت شوقي، وشن حملة واسعة ضد اللجنة وشوقي بك وجعفر باشا ونسيت اللجنة أمر النشيد، وكان الرافعي قد كتب قصيدة على لسان سعد زغلول وأرسلها له في المنفى، هي "أسلمي يا مصر" واحتفى بها المثقفون ولحنها صفر علي، واعتبرها الشعب المصري - وليس الحكومة أو الملك - النشيد القومي للبلاد وبدأت تُعزف في المناسبات.

 وفي 8 يونيو عام 1922 نشرت "الأهرام" خبرًا عن بدء المثال محمود مختار خلال أسبوع في صنع تمثال "نهضة مصر" حسب النموذج الذي عرضه في باريس، وبدأت حملة اكتتاب شعبية لجمع تكاليفه، ووصفته الصحيفة كالآتي: "قاعدته من الجرانيت الأسود وارتفاعه 14 مترًا، وما استعمل فيه من أحجار من 180 إلى 200 متر، ومسطح الأرض التي سيقام عليها 180 مترًا، وذلك عدا المباني والأسمنت المسلح"، وهو التمثال الذي أزيح الستار عنه بعد ذلك بست سنوات.

ومن التقاطعات المدهشة أن دار الكتب أرسلت موظفها الشاب الشاعر أحمد رامي إلى باريس سنة 1922 لدراسة اللغة الفارسية، بينما في نفس السنة قررت المطربة الشابة أم كلثوم الاستقرار في القاهرة، وغنت لرامي قبل أن تراه قصيدة "الصب تفضحه عيونه" من ألحان الشيخ أبوالعلا محمد، هو الذي عاد من باريس في صيف 1924، وأصدر الطبعة الأولى من ترجمته "رباعيات الخيام" عن الفارسية مباشرة، ويذهب رامي لسماعها تغني من قصائده، وتعرف إليها والتئم إلى الأبد إبداعهما، الذي رآه غالبية عشاق أم كلثوم حبًا حقيقيًا، (إحصائية: يتصدر رامي أكثر من كتبوا لأم كلثوم بنسبة 46.7% من مجمل أغانيها ـ المركز القومي لتوثيق التراث الحضاري والطبيعي).

وقبل أن ينتهي العام، وفي 4 نوفمبر اكتشف الإنجليزي هوارد كارتر مقبرة الملك توت عنخ آمون، وهو أعظم كشف في تاريخ البشرية؛ بسبب ما احتوته المقبرة، وانتشر الهوس بمصر التي أخذت مكانها في عناوين الصحف الكبرى، وباع ممول البحث والتنقيب اللورد كارنافون حق النشر الحصري من صور وأخبار إلى صحيفة "التايمز" البريطانية، خصوصًا وأن عملية استكمال الحفر والحصر والتنقيب استمرت بعدها لعشر سنوات كاملة. 

وألهمت قصص وصور "التايمز" الأدباء وعلماء الآثار والتاريخ والنساء ومصممي الموضة والحلي والعطور، ونشط السفر إلى الأقصر التي امتلأت بالعلماء والأثريين والكتاب والمغامرين والسياح، لدرجة النوم في الحدائق العامة، كما بدأ المصريون يعيدون النظر في كنوز أجدادهم، ويكتبون عنه، وبدأت الحكومة تهتم بوضع قوانين للآثار.

واستمر الشغف لوقتنا الراهن رغم مرور مائة عام على الكشف، بسبب كمال المقبرة (5398 قطعة أثرية) والموت الغامض لصاحبها الملك الشاب، ثم ما أثير عن لعنة الفراعنة التي أصابت الممول اللورد كارنافون بعد أسابيع من فتح المقبرة. 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
خدمــــات
مواقيت الصلاة
اسعار العملات
درجات الحرارة