بدأ التاريخ من مصر.. فمصر هي التاريخ والتاريخ هو مصر.. كل شبر على أرض مصر له حكاية.. بها أماكن لا زالت تحتفظ بتاريخها وجمالها وأخرى لم يتبق لها سوى أقل القليل من تراثها التاريخي برغم ضخامته وأهميته وتنوعه على مر العصور، بل فقدت جمالها ورونقها وتحولت إلى مناطق شعبية مكتظة بالبشر ومسرح للجريمة والإرهاب.
المطرية وهي من أعرق المناطق المصرية، فهي مدينة "أون" أول عاصمة لمصر الموحدة ما قبل الأسرات "مدينة الشمس"، وهي المطرية التي لجأت إليها العائلة المقدسة، فاختبأت تحت شجرة وانحنت عليهم بأغصانها حتى أخفتهم عن أعين رجال هيرودس، وهي بوابة الحجاج إلى مكة المكرمة، ومسرح لمعارك حربية، فكانت مدخلا رئيسيًا لمصر ومركزًا لاستقبال الوافدين.
عرفت المطرية بالعديد من الأسماء ففي المصرية القديمة كانت "أون" وفي القبطية "أونو" وفي اليونانية "هليوبوليس"، أما المطرية فهو اسم لاتيني يعني "مطر" أي الأم ويقصد بها أم العلوم فبها أول جامعة، وكانت للكهنة منذ خمسة آلاف سنة تعلم فيها فلاسفة روما، كما أطلق عليها بعد الفتح الإسلامي "منية المطرية" لكثرة حدائقها.
مدينة "أون" أقدم عاصمة حضارية وثقافية لمصر اشتهرت بالفلسفة وعلوم الدين وبالفلك بسبب ابتكار التقويم الشمسي؛ الذي تميزت به الحضارة المصرية، وعلى الرغم من أنها لم يكن لها دور سياسي، إلا أنها ظلت محتفظة بمكانتها الثقافية والدينية والحضارية، لأنها كانت عند الفراعنة مركزًا لعبادة الشمس والعلوم بأنواعها.
اختفت تلك المدينة ولم يتبق منها على الأرض سوى مسلة سنوسرت، وتعتبر أقدم مسلة تم العثور عليها حتى الآن، تسجل نقوشها الهيروغليفية اسم الملك ومناسبة إقامتها، وكانت لمرور 30 سنة على حكم الملك سنوسرت الأول، وكان يقابلها مسلة أخرى نقلت إلى مدينة نيويورك، كما تبق قليل من الآثار نقلت إلى المتاحف.
ارتبطت المطرية برحلة العائلة المقدسة التي بدأت من بيت لحم بفلسطين مرورًا بالعديد من المدن المصرية انتهاء بدير المحرق بأسيوط، ثم العودة مرة أخرى فرارًا من هيرودس.
نزلت السيدة مريم العذراء وطفلها السيد المسيح ويوسف النجار المطرية، عندما شعرت العائلة المقدسة بمطاردة هيرودس لها وقربهم منها، فاختبأوا تحت شجرة فانحت عليهم أغصانها وأخفتهم تمامًا عن أعين رجال هيرودس حتى مر الركب ونجوا من شرهم.
بجوار تلك الشجرة التي عرفت بشجرة مريم، عين مياه، فغسلت السيدة مريم ثياب طفلها منها وألقت بمياه الغسيل في الأرض، فأنبت نبات البلسان، وكان يستخرج منه دهن البلسان، ويتبرك به المسيحيون؛ لأنه شاف لكثير من الأمراض، ويقال أن هذا النبات لا ينبت في أي مكان آخر على الأرض، كان حاكم مصر يستخرجه لنفسه ويهادي به ملوك الإفرنج.
وعندما فتح السلطان العثماني سليم الأول مصر ذهب إلى بئر البلسان وغسل وجهه من مائها وأقام هناك إلى بعد العصر.
وفي القرن التاسع عشر تم بناء كنيسة العائلة المقدسة، ومع مرور الزمن ضعفت الشجرة فقام بعض الكهنة 1656م بأخذ فرع من فروع الشجرة وقاموا بزرعها بكنيسة العذراء مريم المجاورة للشجرة العريقة، ومنذ فترة أخذ فرع من هذه الشجرة وزرعها ملاصقة للشجرة الأصلية العتيقة وهي مثمرة بالأوراق وثمار الجميز، ولا تزال شجرة مريم وحديقة البلسم "البلسان" إلى الآن.
مثلت المطرية مدخلًا رئيسيًا لمصر ومركزًا لاستقبال الوافدين والمسافرين من الحجاج والمحاربين، فكان الحجاج يجتمعون بجوار بركة الحج عند خروجهم مع المحمل إلى مكة المكرمة، وبعد أن أصبح الحج عن طريق البحر والسكك الحديدية ردمت هذه البركة، وكانت المطرية متنزها لسلاطين المماليك.
شهدت المطرية العديد من الحروب في العصور القديمة، فعندما حاول القرامطة غزو مصر أوائل حكم الفاطميين استطاع جوهر الصقلي ردهم عند المطرية، والمطرية كانت شاهدة على موقعة الريدانية التي تقع على مشارفها.