Close ad

د. محمد مصطفى الخياط يكتب: شآبيب .. الصياد والطريدة

19-12-2021 | 17:03
الأهرام المسائي نقلاً عن

بحرفية عالية ترسم رواية شآبيب للدكتور أحمد خالد توفيق، رحمه الله، حال المهاجرين العرب سواء أقاموا بإحدى ضواحي مدينة أوروبية متقدمة كالنرويج، أو حارة فقيرة بدولة إفريقية مثل ليبيريا. تشترك الدولتان في شيئين كراهية العرب والمياه المالحة؛ تطل مونروفيا على ساحل المحيط الأطلنطي الممتد شمالاً حتى سواحل الدول الإسكندنافية، حيث يطلق عليه البحر النرويجي.

 لأسباب مختلفة تهب رياح كُره العرب؛ مسلمين كانوا أم مسيحيين. تجد دعوات التعصب العرقي آذانًا صاغية لدى الموتورين والمتطرفين. تُتَرجم إلى أعمال عدوانية تجاه مواطنين، ولدوا وتربوا في ذات البلد ولهم نفس الحقوق. الفارق أصولهم العربية.

 جيلاً بعد جيل، لم تفلح السنوات الطويلة في إخفاء ملامحهم العربية، لون البشرة. الجبهة العريضة. العينان السوداوان أو البنيتان، فالعيون الزرقاء حكر على الأوربيين.

 الأسرة التي هاجرت من تونس، وتلك التي رحلت من سوريا، وثالثة ورابعة، وخامسة بعد الألف، تمتموا؛ (لم يعد لنا مكان هنا .. أرض الله واسعة)، تأبطوا أوراق الهجرة ورحلوا. رغم طول الإقامة، وولادة عدة أجيال في أرض المهجر، لم ينسوا أصولهم العربية. حتى أولئك الذين لم يروا موطن الآباء قط، ولم تغمرهم دفقات الشمس الساطعة، ولسعهم الجليد والصقيع ولوت اللغة الأجنبية لسانهم.

 وأولئك الذين تربوا في ذات الصف المدرسي إلى جوار أقرانهم الإفريقيين، جنبًا إلى جنب؛ البشرة السمراء، الشعر المجعد والشفاه الغليظة.

 كانوا يعيشون عالمين، الأول خارج البيت؛ يخالطون فيه المجتمع، يستخدمون لغته ويمارسون تقاليده وعاداته. وعالم ثان خلف باب البيت، لا يختلف إلا في تفاصيل بسيطة عن نظيره في الوطن الأم.

 مذاق الكُسكس وزيت الزيتون. الفلافل المحشوة بهريسة الشطة. قطع اللحم الكبيرة. استخدام الملعقة بدلاً من الشوكة والسكين. الحلويات الشرقية. تفاصيل أعياد الميلاد. عقيقة المولود. الفتة بالخل والثوم مع رشة صلصة ترسم دائرة كبيرة في مساحة ابتسامة أم تضع بعض بقعٍ صغيرة بحساب حولت الدائرة إلى وجه له عينان وفم وأنف طويل.

 التعرض للمضايقات والتحرش أمر روتيني. في الأتوبيس. في المكتب. في المدرسة. الشارع الضيق أخطر مكان تمر منه، ربما برز من بين الحيطان أو أحد المداخل، بعض المتعصبين. لا تعرف ما الذي ستنتهي إليه المواجهة. ربما ضربوك بعصا غليظة فوق رأسك، أو تلقيت طعنة وتركوك تنزف حتى الموت. ما قد يحدث في أوسلو، يحدث حرفيًا في مونروفيا وسيدني. مطاردون دونما سبب. حلموا بأرض الميعاد ليصنعوا عالمًا قوامه الخير والعدل والسلام.

 أخيرًا تحقق الحلم. شآبيب تنتظرهم ليعيدوا مجد أجدادهم المدفون. صنعت الآلة الإعلامية هالة أسطورية حول شآبيب. اخترعت ألف قصة عن المسلمين الأوائل. عن حضارة لم يخلق مثلها في البلاد. لم يُطق المهاجرون المكبوتون الانتظار. تركوا أوروبا وإفريقيا وراءهم وولوا وجوههم صوب تلك الجزر الواقعة بين أستراليا وإندونيسيا، حيث توجد شآبيب الوعد.

 هانت البدايات الصعبة في سبيل بناء الوطن الحلم، حتى لو كان بلا أي موارد ولا بنية تحتية. أكاذيب تلد أكاذيب لتبقى شآبيب. الكارثة أنهم صدقوا، بل وحاربوا ليصبح الوهم حقيقة. تحت وطأة غريزة الخوف، قضوا على السكان الأصليين، أفرغوا فيهم ما حملوه معهم من غضب وكره مكبوتين. كانوا نموذجًا لمبدأ (العنف ينتج عنفًا أقوى). انقلبت الصورة. تحولت الطريدة إلى صياد يكره كل شيء، حتى نفسه. تمنى الكثيرون لو عادوا من حيث جاءوا.

 وحده البركان حين ثار كان قادرًا على إخراجهم من شآبيب. عاد بعضهم من حيث جاء، وبعضهم إلى الوطن الأم. ليبدأوا من جديد ويذوبوا في الآخر.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة