نحمل ما اختبرناه في طفولتنا على أكتافنا طوال حياتنا، فالطفل الطبيعي بين أسرة سوية يهون حمله في الحياة مهما واجه بعد ذلك، والطفل المعذب يظل حمل الألم يؤرقه طوال عمره، يظل الطفل الجائع للطعام في صغره على يد زوجة أبيه تقرصه بطنه من الجوع حتى لو امتلك طعام الدنيا وخزائنها عندما يكبر، يظل الطفل المعنف المحروم عاطفياً شاعراً بالدونية والنقص حتى لو أصبح نجم النجوم أو لهث خلفه الحب والأصدقاء، تظل الطفلة الجائعة للحب واضعة نفسها تحت الأقدام حتى لو صارت ملكة وناجحة وثرية، تظل الفتاة التي أهانها أبوها تجذب كل من يهينها مع سبق الإصرار والترصد، وكأن هذا هو الطبيعي الذي لا تعرف غيره مهما تأذت ومهما خدمتها الحياة فهي سجينة لمشاعرها الأولى مهما كَبُرت.
قد نتغير، نتجاوز المرحلة الصعبة والإحباط والألم بالعلاج النفسي والدواء أو بخبرات الحياة أو حتى بالانشغال الظاهري، قد نستطع ان نضحك ونختار الملابس المبهجة، نتنزه، نعمل، قد ننجح ظاهرياً، قد نتظاهر بتجاوز الألم لكن الحقيقية أننا نلف وندور داخل دائرته ولا تتغير مشاعرنا ولا تصرفاتنا في حق أنفسنا وبناء عليه تصرفات الآخرين معنا، والحل الوحيد هو أن ننظر بداخلنا ونتصالح مع ألمنا الداخلي لنتغير ونتجاوز حدود هذا الوجع والسجن والقهر الذي قد يُشكل حياتنا في الدنيا والآخرة.
مؤخراً سمعنا عن أزمة جديدة للمطربة شيرين عبد الوهاب وتصريحات نارية لعلاقة من المفترض أنها في غاية الخصوصية، بداية من الاتفاق مع صحفية الفضائح اللبنانية أن تستدرج "أبو زوجها" وتسجل له لتفضحه أمام الدنيا، وبالتبعية طبعاً تفضح زوجها الذي صرحت بعد ذلك بأنه (ليس رجلاً) طالما يعتمد على أموالها هي!!
هل أزمة شيرين هي فشلها في زيجة أو أكثر؟ هل أزمتها هي كم المشكلات التي يوقعها فيها لسانها؟ أم أنها وبعد عشرات الأزمات تحتاج لما هو أكبر من مجرد التعافي من علاقة سامة؟ هل تحمل شيرين بداخلها كما نحمل جميعاً بداخلنا غرفة تذكارات سوداء توجه سلوكنا وتشكل خريطة حياتنا حتى لو لم نعِ ذلك؟
لا يعنينا هنا جنوح المطربة (كبيرة الموهبة صغيرة الأفعال) ولا يعنينا عودتها لزوجها من عدمه ولا يعنينا حقيقة ما حدث بينهم، لكن يحزننا بالطبع أنها لا تعرف أنها شاءت أم أبت أنها نموذج وقدوة لكثيرات، كان يجب عليها الاهتمام بقوتها واستقلاليتها واعتزازها بنفسها، لا بتصريحاتها النارية المسيئة لطليقها وأسباب عدم إنجابها منه، أو نومها لأعوام على الكنبة!
لماذا لا تصمت شيرين (وكل شيرين) لتنظر بداخلها وتتصالح معه عسى أن تكبر نفسياً ولا تسمح لنفسها ولا لغيرها بإهانتها والتقليل من شأن روحك وكيانك الذي كرمه الله، أرسل الله لكِ مائة موقف ظاهرها سيء لكنها تحمل في باطنها رسالة تفيدك هي: لابد أن تعي ما تقولين أمام جمهورك في مصر وخارجها، لابد أن تبحثي عن معلمين ومستشارين ينقلون أسلوبك وطريقة كلامك لمستوى تتحدث به نجمة.
في فضفضة حكى النجم أحمد ذكي لصديقه الإعلامي محمود سعد أنه بعد وفاة أبيه واضطراره أن يعيش في منزل عمه ورغم كرم عمه وطيبة زوجته إلا أنه كان يعيش بينهم كالضيف الذي يخشى أن يشعر أن هذا بيته حتى في طعامه وشرابه كان ضيفاً، وبعد أن كبر الفتى وصار من أشهر نجوم السينما في مصر والوطن العربي وبعد أن تزوج وأنجب ثم ترك زوجته أو (فعل ما يجعل المؤسسة الزوجية تنهار) عاد ليعيش كل أيامه وحتى نهاية عمره كضيف دائم في فندق، نفس حياة طفولته التي لم يخرج من سجنها مهما نجح وكبر واستقل!!
مثل ذلك نجد عبدالحليم حافظ الطفل اليتيم الذي عاش بالملجأ ولم يشعر بالحب، كبر ونجح وملأ السمع والبصر، لكنه حَرَم على نفسه طوال عمره الحب ليس لأنه لم يأته، لكنه ظل مخلصاً لوجع الطفولة، وجوع الطفولة للحب والاستقرار واستمرأ حال الضحية الجائعة للعطف والحنان!
علي العكس نجد أم كلثوم الفلاحة الصغيرة التي رضعت المعاناة من الفقر والتمييز والقسوة كيف علمت نفسها وعملت على نفسها، فصارت أسطورة متكاملة ليست مجرد صوت موهوب أو نجمة عادية، تجاوزت سومة غرفة تذكاراتها السوداء وخلقت لنفسها غرفاً أخرى تليق بطموحها وحياتها الجديدة التي خلقتها لنفسها دون الرجوع للوراء أو السجن في آلامه.
قد نجد نجمة كبيرة أخرى مثل أنغام التي نعلم جميعا كم عانت في طفولتها وفقدت معنى الأمان الحقيقي في أسرة مفككة، كيف تجاوزت وكبرت وعملت على نفسها كثيرًا، تمردت، أحبت، تزوجت، نجحت وفشلت، أخطأت وأصابت، لكنها تطورت نفسياً ومهنياً واحتفظت بشكل وسلوك النجمة القوية ولا يعني أحد ما كان خلف ذلك من آلام ودموع.