هناك فكر يطلق عليه الفكر التنموي والخاص بتنمية المجتمعات أو ما يطلق عليه الآن التخطيط العمراني..
وحكاية العباسية منذ نشأتها على يد عباس الأول الحاكم الثالث من الأسرة العلوية وحفيد محمد علي باشا، ينطبق عليها فكر التخطيط العمراني وكانت تعرف بـ "صحراء الحصوة".
أصدر عباس الأول مرسوما لمجلس الإسكان بوضع خريطة وافية لصحراء الحصوة، وتقسيمها قطعا وتوزيعها على الأمراء وأصحاب الثروة، لبناء القصور والمباني الحديثة بها مؤكدا سرعة البناء لما تتمتع به هذه المنطقة من طقس جيد، ووضع عقوبات صارمة على من يتأخر في التنفيذ، وبدأ عباس بنفسه وبنى سراي العباسية والتي وصفها المهندس ديليسبس أن نوافذها بلغت 2000 نافذة فهي مدينة كاملة في الصحراء، ثم بنى بها ثكنات للجيش تجاه قصر الزعفرانة، وكان عباس الأول يلجأ دائما إلى المناطق البعيدة عن القاهرة للسكن بها فكان له قصر في بنها والذي قتل فيه وسراي ببركة السبع والدار البيضاء في الجبل بطريق السويس وسراي الخرنفش والعتبة الخضراء وكان اسمها العتبة الزرقاء.
وقبل الحديث عن الطفرة التي أحدثها الخديو إسماعيل للعباسية، نعود إلى العصر الفاطمي فكانت تلك الصحراء تعرف باسم "الريدانية" نسبة إلى ريدان الصقلي، وكان يمتلك بستانا بتلك المنطقة، وكان ريدان صاحب المظلة التي يحملها على رأس الخليفة الفاطمي العزيز بالله ثم الحاكم بأمر الله، الذى انقلب عليه واعتقله ثم أمر بقتله.
نالت الريدانية بعض التعمير والبناء في عصر المماليك، إلا أنها تأثرت بالمحن التي أصابت القاهرة في تلك الفترة لانحسار مياه النيل لسنوات فانتشرت الأوبئة والأمراض وعمليات السلب والنهب؛ مما أدى الى خرابها، إلى أن أنشأ بها طومان باي في عهد السلطان قايتباي قبة وخانقاه وهو ما يعرف "بالقبة الفداوية" وزرع حولها البساتين والمتنزهات وخان للمسافرين وعرفت هذه المنطقة "بالعادلية".
كانت الريدانية مسرحا للموقعة الحربية بين السلطان العثماني سليم الأول والسلطان الأشرف طومان باي آخر السلاطين المماليك والتي انهزم فيها عام 1517م، وذلك بعد هزيمة السلطان الغوري في مرج دابق بالشام، حاول طومان باي مقاومة العثمانيين واختفى عند أحد المشايخ العربان؛ لكنه خانه وسلمه لسليم الأول الذي أمر بشنقه على باب زويلة.
استكمل الخديو إسماعيل تعمير صحراء الحصوة التي عرفت بالعباسية نسبة لاسم عباس الأول، ولأن التنمية تبدأ بإنشاء الطرق ووسائل المواصلات، ففي عام 1865م شق شارع العباسية ليصل بين القاهرة والعباسية، وفى العام نفسه مد خطا حديديا بطول سبعة كيلومترات من العباسية الى قصر القبة، ثم مد خطا آخر إلى قصر النيل وثالث إلى العادلية عند قبة طومان باي "القبة الفداوية" والاستبالية، كما أنشأ مقهى ومركز للدخولية لجباية الضرائب.
أنشأ إسماعيل "السراي الحمراء" سراي العباسية، وسميت بالحمراء حيث سيطر اللون الأحمر على معظم واجهاتها، وكانت جميع الحيطان والأسقف مكسوة بالأقمشة القيمة، وبالطبع كانت للسراي حديقة كبيرة، ولكن احترقت هذه السراي ولم يتبق منها غير مبنى صغير تم طلاؤه باللون الأصفر وعرفت بالسراي الصفراء شغلتها "استبالية المجاذيب" وتشغلها الآن مستشفى الأمراض النفسية والمعروفة بمستشفى العباسية.
في تلك الفترة كانت العباسية أحد أحياء القاهرة الهادئة والأنيقة، يسكنها الأمراء والصفوة وأولاد الذوات والأمراء، تنتشر فيها القصور والفيلات.
ومن المنشآت المهمة التي أنشأها إسماعيل بالعباسية مبنى "الرصد خانة" لرصد الكواكب والنجوم والفلك واستطلاع الهلال والتنبؤ بأحوال الجو والمناخ، ومدرسة الحسينية الابتدائية ومدرسة ثانوية وفى 1866م أنشأ مدرسة المهندسخانة بحرم سراي الزعفران والذي تشغله الآن إدارة جامعة عين شمس وسمى بالزعفران نسبة إلى زهرة الزعفران التي اشتهرت به تلك المنطقة، ومدرسة الزراعة، والري، والعمارة.
أسس الخديو إسماعيل عددا من المدارس العسكرية منها مدرسة البيادة "المشاة" 1864م، ومدرسة السواري "الفرسان" وفي العام التالي أنشأ مدرسة الطوبجية "المدفعية" ومدرسة أركان حرب، كما نقل إليها مدرسة الضباط "الحربية"، وكان يرى أن هذه المنطقة مناسبة جدا للتدريبات العسكرية وضرب النار، كما أنشأ ميدانًا لسباقات الخيول، وتحولت العباسية إلى ميدان للرماية والاحتفالات الشعبية.
ومع مرور الزمن انتشرت بالعباسية المنشآت الحيوية والوزارات والمصالح الحكومية وأصبحت مركزا مهما للمواصلات مع كافة أحياء القاهرة وضمت الكثير من المستشفيات والمدارس بالإضافة الى الصرح العلمي الكبير جامعة عين شمس.