في الثَّالث من ديسمبر من كلِّ عامٍ يتجدَّد الاحتفال باليوم العالميِّ لذوي الاحتياجات الخاصَّة، وهو اليوم الَّذي خصَّصته الأمم المتَّحدة عام 1992م، ووضعت لذوي الهمم منهم مجموعةً طيِّبةً من الأهداف تتعلَّق بهم، وتدور حول تأكيد وجودهم، وضمان حقوقهم، وضرورة إدماجهم.
وما أودَّ أن أقوله هنا: إنَّ العناية بذوي الهمم فرضٌ إيمانيٌّ، وواجبٌ إنسانيٌّ، ومظهر حضاريٌ، ومطلبٌ اجتماعيٌّ.
وأودُّ أن أقول أيضًا: إنَّ الإسلام قد وضع بذور حقوق «ذوي الهمم» قبل أكثر من ألفٍ وأربعمائة عامٍ، وأزعم أنَّ الإسلام تفرَّد وتميَّز في إقرار هذا الحقِّ لهم بما يؤكِّد أنَّه دينٌ إنسانيٌّ من الدَّرجة الأولى، ودينٌ عمليٌّ بامتيازٍ.
أمَّا إنسانيَّته فتظهر في عنايته ورعايته للإنسان من حيث كونه إنسانًا، بغضِّ النَّظر عن قوَّته أو صحَّته أو غير ذلك من معايير، وهذا على خلاف ما كان معروفًا من أفكارٍ وممارساتٍ تناقض أدنى معاني الإنسانيَّة، وفي مجتمعاتٍ يُشار إليها بالتَّقدُّم والحضارة والرُّقيِّ، وعلى ألسنة مَن يُقال عنهم إنَّهم مفكِّرون وفلاسفةٌ وقادةٌ، وتدرجَّت هذه الأحكام بدءًا من الإقصاء والتَّهميش حتَّى الحكم بإنهاء الحياة تحت اسم «الموت الرَّحيم»!
وأستبعد جدًّا – ربَّما بحكم مرجعيَّتي الإسلاميَّة، وعقيدتي الإيمانيَّة - أن تكون هذه الأفكار قد لاقت قبولًا مجتمعيًّا كبيرًا في وقتها، لكنَّ التَّاريخ يشهد أنَّ بعض النَّاس ظنُّوا أنَّ «ذوي الهمم» أفرادٌ تقمَّصتهم الشَّياطين والأرواح الشِّـريرة، وظنُّوا مرَّةً أخرى أنَّهم فئةٌ خبيثةٌ تشكِّل عبئًا على المجتمع، وتضرُّ بفكرة الجمهوريَّة كما أعلن الفيلسوف (أفلاطون).
ومن تأمَّل كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وجد إشارةً إلى بعض هذه الأفكار الظَّلاميَّة، فقد كانوا قديمًا يتقذَّرون أن يجتمعوا مع المرضى والزَّمنى على مائدةٍ واحدةٍ، فكانوا يتحاشونهم، فأنزل الله الرَّحمن الرَّحيم: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ...» فأعلن بذلك عن وجود فكرةٍ شائهةٍ تجاه طائفةٍ حسَّاسةٍ، وأعلن أيضًا أنَّهم كمَن سواهم.
وأمَّا الملمح العمليُّ للإسلام فيتبدَّى في سلوك النَّبيِّ ﷺ الَّذي جاء ترجمةً صادقةً لكتاب الله -عزَّ وجلَّ- إذ عاش معهم في إنسانيَّةٍ أخَّاذةٍ، ورفقٍ جميلٍ، جعل من بعضهم قصَّة نجاحٍ تُحتذى.
كان عبدالله بن أُمِّ مَكْتُومٍ رضي الله عنه مِن ذوي الهمم، كان كريم العينين، أتى النَّبيَّ ﷺ يومًا ليسأله ويتعلَّم منه، فانشغل عنه النَّبيُّ ﷺ بدعوة واحدٍ مِن أشراف قريش؛ رجاء أن يسلم مَن وراءه.
ورغم أنَّ انشغال النَّبيِّ ﷺ كان بأمرٍ مشروعٍ وهو الدَّعوة إلى الله، ورغم أنَّ السَّائل لم يرَ عبوسه، ولم يفطن إلى انشغاله، فإنَّ المولى تبارك وتعالى أبى إلَّا أن يضع الأمور في نصابها، فأنزل آياتٍ بيِّناتٍ تعاتب النَّبيَّ الرَّحيم ﷺ عتابًا شديدًا، فقال سبحانه: «عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى» [عبس: الآيات 1 – 5].
أفليس في هذا الإعلان القرآنيِّ إشارةٌ إلى أنَّ «ذوي الهمم» أولى بالعناية والرِّعاية والاهتمام أكثر من غيرهم؟!
وفي لمحةٍ عمليَّةٍ جديدةٍ يجعل رسول الله ﷺ ابن أمِّ مكتومٍ شريكًا لبلال في الأذان، وهو ما يُسمَّى بـ«الإدماج الاجتماعيِّ»، ولم يكن بصره مانعًا من سموِّ همَّته.
وزاد هذا الإدماج مع هذا الصَّحابيِّ الجليل حتَّى كان النَّبيُّ ﷺ يستخلفه واليًا على المدينة حين يخرج للغزو، ولولا كفاءة عبد الله ما ولَّاه رسول الله ﷺ.
ولم يرضَ هو رضي الله عنه بأن يُشار إليه بأنَّه أعمى، أو أنَّه لا دور له في الحياة، فخرج إلى الغَزُو مع أصحابه، وقال لهم: ادْفَعُوا إِلَيَّ اللِّوَاءَ فَإِنِّي أَعْمَى لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفِرَّ وَأَقِيمُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، حتَّى سقط شهيدًا في معركة القادسيَّة.
ويمكن أن أسوق من سيرة سيِّدنا رسول الله ﷺ غير قصَّة ابن أمِّ مكتومٍ، ولكن حسبنا ما تشير إليه قصَّته من مراعاة مشاعر وإدماجٍ وعدم إقصاءٍ، وهذا على خلاف واقعنا المرِّ الَّذي يعلن عن لامبالاةٍ وإهمالٍ شديدين لذوي الهمم، خاصَّةً في الأُسر الَّتي لم تتلقَّ قدرًا كافيًا من الإيمان والعلم يحملهم على الرِّضا والصَّبر وحسن التَّصرُّف.
أمَا وقد اهتدى العالم المعاصر إلى فكرة «الرِّعاية المتكاملة لذوي الاحتياجات الخاصَّة» فإنَّ من المهمِّ أن نكرِّر ما قلناه منذ سطورٍ: إنَّ العناية بذوي الهمم فرضٌ إيمانيٌّ، وواجبٌ إنسانيٌّ، ومظهر حضاريٌ، ومطلبٌ اجتماعيٌّ.
ومن الواجب على الأفراد والأهل والمجتمع تجاه ذوي الهمم ألَّا نسخر منهم، وألَّا نعزلهم عن الحياة، وأن ندمجهم معنا، فضلًا عن تأهيلهم وتعليمهم بما تسمح به قدراتهم وطاقاتهم، وتوفير العلاج المناسب لأحوالهم ... وغير ذلك من واجباتٍ.
ولقد أحسن هذا الَّذي غيَّر كلمة المعاقين إلى كلمة ذوي الهمم، والشَّرع يأمر بالتَّفاؤل واستخدام الكلمات الطَّيِّبة، وقد أحسنت الدَّولة المصريَّة حين سنَّت من القوانين واللَّوائح ما يكفل حقوقهم، ويضمن إدماجهم.
وفي ماضي أمَّتنا وحاضرها صورٌ وشواهد كثيرةٌ على أنَّ الابتلاء بنقص حاسَّةٍ أو عضوٍ لم يكن عائقًا عن النَّجاح والتَّميُّز، بل كان في كثيرٍ من الأحيان سببًا في الإلهام، وبثِّ روح الأمل.
وأمَّا المعوَّق الَّذي يستحقُّ هذا الاسم والوصف، فهو من عوَّقته شهوته وغفلته عن بلوغ مرضاة ربِّه، ومن عوَّقه الجهل عن العلم، ومن عوَّقه الكسل عن العمل، ومن عوَّقه البخل عن الكرم، ومن عوَّقته القسوة عن الرَّحمة، ومن عوَّقته الحزبية والعصبيَّة عن الوفاء للدِّين والوطن والأمَّة.
** مدير عام شئون هيئة كبار العلماء بالأزهر