طريق طويل يبعدنا عنها، سمعت كثيرًا عن عدد ساعاته وصعوبته، وعن مطار موجود قد يعمل أحيانًا بشروط صعبة، ورحلات توقيتاتها غير محددة وبأسعار مبالغ فيها.
بعد سنوات من الخوف قررت المغامرة وتلبية (نداء الحلم القديم)؛ بزيارة واحة السحر القابعة وسط صحراء مصر الغربية، في الطريق المؤدي إليها وجدت عملًا وطرقًا أخرى موازية جديدة، وطريق العودة يتم تمهيده ورصفه ليتحمل مرور عربات النقل الضخمة؛ المحملة يوميًا بأطنان من الملح الخاص بالتصدير، وقتها أدركت أن التطوير قد يمر من هنا، أو أنه قد اقترب الوقت لتعمل الدولة هنا أيضًا، في هذه المنطقة بعد أن عانت من الإهمال لقرون كاملة.
بعد أكثر من ثماني ساعات متواصلة بالسيارة وصلنا، في البداية بالطبع وجدنا أنفسنا بين منازل ونُزل بسيطة معظمها من "الكرشيف" وهو الملح الصخري الذي يتميز به المكان منذ آلاف السنين، وبنوا به مدينتهم القديمة (شالي)؛ التي رعى الاتحاد الأوروبي - بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار - مؤخرًا ترميمها؛ تمهيدًا لأن يدرجها اليونسكو في قائمة التراث العالمي.
وتعتبر "قلعة شالي" - التي يزيد عمرها على ألف عام - شاهدًا على جزء مهم من تاريخ مصر، وطمع كل غازي في خيرات الصحراء الغربية؛ لدرجة أن أهلها بنوا لأنفسهم قلعة يحمون بها أنفسهم وخيرات واحتهم، رحل الغزاة والسكان وبقيت القلعة شاهدة على التاريخ.
- بمجرد الوصول تجد نفسك محاطًا بآلاف من شجر النخيل المثمر الواصل لعنان السماء، وبالرغم من الفقر الواضح على الشوارع المهملة منذ عشرات السنين والبساطة الطاغية على كل مكان، ولكنك تتيقن أنك في جزء آخر من العالم يتجلى فيها اسم الله (البديع).
كانت الزيارة في نهاية موسم الصيف، هذا معناه نهاية وقت السياحة العلاجية والدفن بالرمال الساخنة؛ بغرض التخلص من مشاكل العظام نظرًا لخصوصية ومكونات وحرارة الرمال في الجبال والكثبان الرملية شديدة الحرارة هناك، ورغم أهمية هذا الموسم لكن المستفيدين منه قطاعات محدودة جدًا من السياحة الداخلية الآتية في مجموعات تنظمها شركات السياحة المتواضعة لمدة يومين أو ثلاثة وبأقل الأسعار، ونادرًا ما يتم تسويق هذا النوع من السياحة دوليًا؛ بالرغم من أهميتها، وبالرغم من اشتمال الواحة على معجزة بحيرات الملح التي ثبت بالفعل شفاء من ينزل بها من أي أمراض جلدية، هذا غير العيون الكبريتية الطبيعية الساخنة والباردة التي أهدتها الطبيعة إلى أرضها.
- المكان مُبهر يجعلك تتساءل كيف اختص الله بقعة واحدة في أرضه بكل هذا السحر؟ وكأنه رسم كل ما فيها بيديه متجليًا عليها باسمه (الجميل) الذي تراه براقًا خاطفًا في شروق شمسها، ساحرًا في غروبها، خاطفًا حائرًا بين روعة نجومها وقمرها، متألقًا مع امتداد رمال صحرائها، وحكايات حُفرت على ملح تحجر حافظًا هويتها وطبيعة أهلها.
- تساؤلات كثيرة لماذا لم يتم تشغيل المطار المقام على أرض سيوة منذ زمن؟ ولماذا لم أجد مشروعًا يعرض أشغال نساء سيوة، بالرغم من توافر المكان لذلك في السوق القديمة، ومعلن عن أنها منفذ بيع تابع للشئون الاجتماعية؛ لكن على مدى أسبوع كامل - قضيته هناك - لم تفتح أبوابها لساعة واحدة، لماذا لا توجد خدمات صحية أو بنية تحتية مناسبة؟ ولماذا نجد تشوهات حضارية مستجدة على طبيعة الواحة، واستخدام أهلها التوك توك والتروسيكل والمباني الخراسانية، في حين أن طبيعة الواحة الهادئة لا تحتاج لكل هذا؛ بل يضيع هويتها؟ لماذا لا يوجد اهتمام بحياة سكان الواحة؟ ولماذا تمتنع نساؤها عن التعليم بعد المرحلة الابتدائية؟ ولماذا يتفشى فيها الزواج المبكر وغيره؟
- حملت أسئلتي للخبير السياحي (الحاج) محمد حسن - كما يلقبه سكان الواحة - حيث إنه يعيش بها منذ حوالي عشرين عامًا، بالرغم من أنه قاهري، لكنه وقع في غرام المكان ولم يتركه لليوم، أجابني الحاج محمد حسن بأن الواحة مهملة منذ الأزل؛ بل إنها تطورت الآن، ويتوقع لها أن تتطور أكثر؛ خاصة بعد ترميم "قلعة شالي"، وكذلك بعد اكتشاف العيون الكبريتية وجبال الملح وبحيراته، لكن المشكلة الأولى التي تقف عائقًا أمام السياحة والتطوير هي غياب التسويق، بالرغم من ثراء وتفرد وخيرات هذه البقعة، فمثلًا شرم الشيخ والبحر الأحمرعمومًا معروف عالميًا، لذلك تكلفة تشغيل الطيران والمطار كله ليست ضخمة مثل هنا في حال عدم وجود رحلات داخلية ودولية منتظمة تُشغل ذلك، كذلك فإن بُعد المسافة وضعف مستوى الخدمات تخلق عائقًا ضخمًا أمام كل شيء.
ومنذ عدة أعوام أتى محافظ قوي لمرسى مطروح - التي تتبعها واحة سيوة إداريًا - وقرر الحفاظ على طابعها البدائي من طرق بناء وانتقالات، وكذلك وضع خطة رائعة لتطويرها؛ لتصبح مقصدًا سياحيًا دوليًا لائقًا لا ينقصه شيء؛ لكن المحافظ - للأسف - انتقل لمكان آخر قبل إتمام خطته، ولذلك لم يتم هذا التطوير.
وبالنسبة للرعاية الصحية وتعليم الفتيات.. وغيره، يخضع كله للعادات الصارمة التي تعيش بها السيدات هنا؛ فممنوع عليها أن تذهب لمستوصف أو مستشفى به طبيب رجل، كذلك ممنوع عليها أن تتعلم، ومن الطبيعي أن تتزوج الفتيات وهي دون العشرين، ولا تخرج من منزلها إلا نادرًا، وتقضي وقتها في المشغولات اليدوية البديعة.
لكن - للأسف - هناك أيضًا سوء في التسويق، وبالفعل هناك منفذ للبيع تابع للشئون الاجتماعية، لكن للأهالي حسابات في استئجار المكان مع قلة المبيعات؛ لذلك قد يدار المكان بعقلية الموظفين وليس أصحاب الشأن أو التجار، وتعرض المنتجات في عدد قليل من البازارات، لكن هذا بالطبع ليس كافٍيًا.
- نتمنى - مع كل مواطن سيوي أومصري يحب بلده ويقدر روعتها - أن تضع الدولة سيوة في خطة التنمية في أقرب وقت؛ فهي مكان متميز ومهم وآمن ومحمي بأهله من أي غريب متسلل من أي دولة أخرى، فكل أهلها يعرفون بعضهم، وجميعهم مسالمون تحكمهم قوانين البيئة الطيبة، فتنميتها من مصلحتنا جميعًا؛ للاستفادة من هذا الكنز الرباني الذي تم إهماله على طول الزمان.