راديو الاهرام

د. حاتم عبدالمنعم يكتب: الدين والسياسة .. السماء والبحر العميق (٢-٣)

12-12-2021 | 03:05

إن مبادئ وقضايا الأديان بوجه عام واضحة وظاهرة وثابتة كمبادئ عامة، ولكن قضايا السياسة ترتبط بمصالح متغيرة بعضها معروف على السطح، وبعضها غير معروف للعامة، ومتغيرة بتغير المصالح والزمان والمكان.
 
السياسة جزء كبير منها غير واضح وبه كثير من الأسرار والخبايا غير المعلنة، أما الدين فمبادئ سماوية أوضحها لنا الله سبحانه وتعالى وبينها، السياسة من صنع البشر وتتغير بتغير البشر والزمان والمكان، لكن الدين ثابت لا يتغير.
 
الدين سماوي، أما السياسة فأرضية، الدين صدق ومحبة، السياسة بها كثير من الأكاذيب والأحقاد وتصفية الحسابات والمصالح، الدين واضح معلن، السياسة غير معلنة، الدين منير واضح للجميع، السياسة كالبحر العميق ما خفي منه أكبر.
 
وهذا هو الفرق الكبير، السماء الصافية المنيرة الواضحة في مقابل البحر العميق غير الواضح وصعب معرفة ما يحتويه، ومن هنا يصعب على علماء السماء الذين اعتادوا النور والشمس معرفة ما تحويه البحار العميقة، والعكس أيضًا صحيح.
 
الدين تم نشره عن طريق الأنبياء والرسل وهم أعظم خلق الله، لكن السياسة يتم نشرها من خلال بشر على مختلف الألوان فمنهم النقي ومنهم الثوري ومنهم الخائن، ومن هنا عالم الدين تعلم وعاش في النور الذي جاء من السماء من خلال أعظم خلقه وهم الرسل الكبار عليهم الصلاة والسلام جميعًا، لذلك عالم الدين يعمل في ظل ثوابت واضحة لا تتغير، عكس رجل السياسة وحسابات المصالح المتغيرة في ظل عوامل بعضها معلن وبعضها خفي لا يعلمها إلا القليل.
 
وترتبط السياسة بالبشر على اختلاف أنواعهم وأغراضهم، بجانب تدخلات خارجية وضغوط للتأثير على صانع القرار، ومن هنا صعوبة فهم المجال السياسي بالنسبة لعالم الدين أو لغيره، ومن ثم صعوبة الخوض أو التدخل فيه؛ نظرًا للاختلافات الكبيرة بين العلوم الدينية والعلوم السياسية، وغياب الثقافة العامة بوجه عام، مع انتشار الجهل والأمية الثقافية.
 
مصالح رجال السياسة وعلماء الدين
وهناك حاجات ومصالح متبادلة بين رجال السياسة وعلماء الدين، وكلاهما يعمل على التأثير في الرأي العام ومحاولة كسبه، وكلاهما محتاج للآخر، ويسعى لنشر رسالته بين العامة، وقد يكون بعضها لوجه الله، وبعضها لتحقيق مصالح دنيوية محدودة، وكلاهما يسعى لبسط تأثيره وثقافته على معظم وأكبر القطاعات الممكنة، ولذلك هناك نقاط التقاء كثيرة وأيضاً نقاط اختلاف.
 
ومن هنا فإن رجل السياسة يسعى لكسب تأييد عالم الدين؛ لبسط المزيد من النفوذ والانتشار بين الشعب؛ للاستفادة منه وتحقيق أهدافه السياسية، وعالم الدين في حاجة لمزيد من حرية التعبير ونشر الثقافة الدينية بين العامة، ومن هنا هناك مساحة من المصالح أو العلاقات والتأثيرات المتبادلة تختلف من زمن لآخر ومن مكان لآخر ومن شخص لأخر. 
 
ومن هنا تتولد الكثير من الشبهات؛ حيث يسعى كثير من رجال السياسة للتقرب من علماء الدين ودعوتهم ومنحهم الجوائز واستضافتهم وتكريمهم وكثير من المميزات؛ رغبة في استمالتهم إلى جانبه، وهذه السياسات منتشرة بشدة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ومن مختلف النظم؛ سواء ملكية أو جمهورية، ومن ثم فإن مجرد قبول دعوة أو مشاركة لرجال السياسة قد تسبب كثيرًا من الشبهات لعالم الدين، والواقع به الكثير من الشبهات في هذا المجال مما قد يصعب حصرها.
 
نشر الدين من القاعدة أم من القمة؟
إن قضية نشر الدين وتطبيقه في حياتنا العامة، قضية مهمة وحساسة، وقد تكون من الأسباب المهمة لكثير من مشكلاتنا في الوطن العربي، أو من العوامل التي يستغلها البعض للتأثير في المجتمع لتحقيق أهدافه السياسية في السلطة والنفوذ أو حتى لخدمة الآخرين، فهل تكون أفضل وأسهل من قمة الحكم، أم من القاعدة والتربية والتعليم للنشء، وقد يرى البعض أنه لا يوجد ما يمنع السير في الاتجاهين معًا.
 
وحتى لو افترضنا جدلًا صحة الجمع بين الموقفين فهذا يعني الإسراع في نشر التعليم والثقافة الدينية من خلال الأسرة أولا، ثم وسائل التنشئة الاجتماعية المختلفة، مع التركيز على مرحلة الطفولة.
 
وهناك تجارب محيطة لبعض الدول لفرض الدين من القمة كانت قوانينها تفرض أزياء وملابس معينة، وغيرها من أمور ثبت بالتجربة فشلها؛ سواء بالتراجع عنها أو حتى قبل التراجع، فقد كان التزامًا شكليًا للكثيرين، وبمجرد الخروج عن النطاق الرسمي يحدث العكس تماماً من البعض، ثم إن البدء بالتعليم والنشء سيصل بنا في النهاية إلى تغيير القوانين والتشريعات؛ وهي قضية الضبط الاجتماعي بوضوح؛ حيث ينقسم الضبط الاجتماعي إلى ضبط رسمي وغير رسمي.
 
الضبط الرسمي؛ ونعني به القوانين التي تتضمن العقاب والثواب من خلال السلطة ومجالسها التشريعية، والضبط غير الرسمي بداية هو الحضانة الأولى للضبط الرسمي، ويمكن تحديد الضبط غير الرسمي في عادات وتقاليد وقيم وأعراف المجتمع، وهذا يقودنا بوجه عام إلى عملية الإصلاح في الكون؛ وهي وظيفة الإنسان أن يعمر ويصلح في الأرض، وهي أيضًا قضية الإنسان والبيئة منذ بدء الخليقة، حيث يمكن التمييز بين ثلاث منظومات أساسية وهي:
 
المنظومة الطبيعية:
وهي من صنع الله وحده دون تدخل من الإنسان، وهي منظومة المحيط الحيوي، وتشمل الأرض والغلاف المائي والغلاف الهوائي، وهذا هو الحيز المكاني الذي يتواجد فيه كافة الكائنات الحية، وهذه المنظومة سبقت ظهور الإنسان بملايين السنين.
 
المنظومة الاجتماعية:
ظهرت الحياة على سطح الأرض من خلال النباتات والحيوانات ثم جاء الإنسان وبدأت التجمعات الإنسانية ونشأت المدن والدول، وتتكون المنظومة الاجتماعية من جزءين أساسيين، الأول يرجع للماضي البعيد ويضم العادات والتقاليد والأعراف والقيم الاجتماعية، والجزء الثاني يضم النظم الاجتماعية المختلفة التي ينشئها الإنسان لإشباع احتياجاته مثل النظام التعليمي والتشريعي، والاقتصادي والإعلامي والسياسي وخلافه.
 
المنظومة التكنولوجية أو المشيدة:
وهي تضم كل شيء صنعه الإنسان مثل المسكن والمصنع والسيارة والأسلحة وخلافه.
 
ويتفق علماء البيئة على أن المنظومة الاجتماعية هي أهم منظومة؛ لأنها هي التي تصنع التكنولوجيا ،وتؤثر على المنظومة الطبيعية سلبًا أو إيجابًا، وأن أهم جزء في المنظومة الاجتماعية هو الجزء الأول الذي يرجع للماضي البعيد، ويضم العادات والتقاليد والأعراف والقيم؛ لأن هذا الجزء هو الأساس، وفي ظله تنشأ النظم الاجتماعية المختلفة؛ فمثلًا إذا ضربنا مثالًا بمجتمعين مختلفين، المجتمع الأول يهتم بالبيئة والمحافظة على التشجير وخلافه مثل ألمانيا، والمجتمع الثاني مثل دولة من الدول النامية عاداتها وتقاليدها وقيمها لا تهتم بالبيئة.
 
وسنجد أن العادات والتقاليد والقيم الإيجابية نحو البيئة في النموذج الأول - مثل ألمانيا - سوف تشكل جميع النظم الاجتماعية، وهي الجزء الثاني من المنظومة الاجتماعية؛ بمعنى أننا سنجد نظام التعليم - مثلًا - يهتم بنشر الوعي البيئي ونشر الخضرة والتشجير والحفاظ على البيئة، وسوف يتصاعد ذلك مع سنوات الدراسة، فنجد كليات الزراعة تهتم بالزراعة العضوية، وكليات الهندسة تهتم بتكنولوجيا الطاقة النظيفة - مثل الطاقة الشمسية والسيارات والأجهزة التي تعمل بدون تلوث وتركيب الفلاتر للحد من التلوث - كما سنجد النظام التشريعي حاسمًا ويعاقب كل من يلوث البيئة، ويفرض ضرائب عالية على التلوث.
 
وسنجد أيضًا كليات الإعلام تهتم بالتوعية والإعلام البيئي، وكليات الخدمة الاجتماعية تهتم بالعمل الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية في عملية البيئة، وبعد ذلك نجد النظام السياسي به حزب الخضر؛ وهو حزب قوي ومؤثر في الحياة السياسية والتشريعية وهكذا.. فإن النظم الاجتماعية المختلفة تنشأ وتعتمد على العادات والتقاليد والأعراف والقيم، وهذه هي الوسيلة الأساسية لنشر الوعي البيئي والوصول إلى بيئة نظيفة جميلة، ولذلك نجد اهتمامًا واضحًا بالبيئة وتشريعات صارمة لحماية البيئة عكس الدول النامية.
 
وما ينطبق على البيئة ينطبق على كل شيء؛ بمعنى لو أردنا مجتمعًا يحترم الدين وقواعده ونظمه، فعلينا أن نبدأ بالمنظومة الاجتماعية؛ وخاصة الجزء الأول الذي يتكون من العادات والتقاليد والأعراف والقيم؛ لأنها هي الحضانة الأولى لكافة النظم الاجتماعية بعد ذلك؛ سواء نظام اقتصادي أو تشريعي أو إعلامي أو سياسي، كل هذه النظم تنشأ في مظلة العادات والتقاليد والقيم؛ فهي التي تشكل القوانين والتشريعات وكافة النظم.
 
والآن على من يريد أن يكون المجتمع كله منضبطًا دينيًا ويسير على هدى الأديان، فعليه أن يبدأ بالنشء والتعليم؛ لنشر العادات والتقاليد والقيم والأعراف الدينية؛ لأنه في ضوئها بشكل تلقائي سوف ينشأ النظام التعليمي وفقًا لتعاليم الدين، وكذلك النظام الاقتصادي والإعلامي والتشريعي والسياسي وغيره.
 
ومن هنا فالتعليم منذ الطفولة هو الوسيلة الوحيدة لنشر الدين وليس القوة أو العنف.. فالبداية بالتعليم ومن القاعدة وليست من أعلى وليست البداية الصحيحة بالقانون؛ لأنه إذا بدأنا من القاعدة فهي التي سوف تضع القانون.
 
لكن ننظر حولنا لمن بدأ من أعلى وبالقوة ماذا كانت النتيجة؟ فشل وتراجع كبير، وكل الجماعات التي ادعت أنها تعمل لصالح الدين ونشره كان هدفها السلطة والحكم؛ بل إن معظمها تم تأسيسه من قبل قوى معادية للإسلام؛ بغرض نشر الفتنة والفوضى، وإذا رجعنا إلى نشأة الأديان كلها كانت من خلال التعليم ومن القاعدة؛ لأن التعليم هو الوسيلة الوحيدة لحل كل المشاكل، فالمشكلة الأساسية هي الجهل.
 
التعليم هو الوسيلة الوحيدة لنشر الدين والمبادئ الدينية في المجتمع، والتعليم الذي يترجم إلى عادات وتقاليد وقيم وأعراف اجتماعية، التعليم هو الوسيلة الوحيدة لوجود مجتمع متماسك بقيم دينية ومن ثم فرض النظام التشريعي والاقتصادي والعلمي والسياسي والإعلامي.
 
الخلاصة نشر الدين يكون من القاعدة وليس من القمة، ومن يلجأ لغير ذلك يكون هدفه السلطة والسلطان، وعادة ما يكون ذلك لحساب قوى معادلة، وبث الفوضى والفتنة؛ سواء بعلم هذه القيادات أو بجهلها.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة
خدمــــات
مواقيت الصلاة
اسعار العملات
درجات الحرارة