قضية الدين والسياسة في مصر والوطن العربي تعتبر من أهم وأخطر القضايا على الإطلاق في العصر الحالي، وقد تكون من الأسباب الرئيسية الآن المعوقة للتقدم والتنمية في الوطن العربي، كما قد تكون السبب في انتشار الحروب الأهلية والطائفية وهي قضية مركبة وصعبة وتمتد جذورها لنهاية عصر الخلفاء الراشدين.
وقضية الدين والسياسة تتشابك فيها خيوط المصالح الإقليمية والعالمية والضغوط من كلا الطرفين، ولذلك هي قضية تختلط فيها الأمور مما يشكل صورة ضبابية غير واضحة المعالم لعدة أسباب متفاعلة، من أهمها أن الدين الإسلامي لم يكن يفصل بين الدين والدولة: فالإسلام رسالة شاملة وهذه حقيقة ليست موضع خلاف، ولكن الاختلاف حول الوسيلة المناسبة والمسئولين عن نشر الدين؛ بمعنى هل يتم نشر الدين من أعلى؛ وأقصد من جانب الحكومة، أم يتم نشر الدين من القاعدة ومن خلال عمليات التنشئة الاجتماعية والتعليم والثقافة؛ بداية من الأسرة إلى مختلف وسائل التنشئة الاجتماعية؛ لذلك نحاول تناول هذه الإشكالية وأسبابها المتعددة والتي تحتاج لمزيد من النقاش والحوار بين أبناء وطننا، بداية نجد أن العلوم الدينية والعلوم السياسية كلاهما من العلوم الصعبة والمركبة:
حيث ترى نظرية المعرفة العلمية لأوجست كونت أن المعرفة العلمية تنقسم إلى:
1. علوم بسيطة.
2. علوم مركبة.
العلوم البسيطة هي تلك التي لا تعتمد في دراستها على العلوم الأخرى إلا نادرًا؛ فمثلًا معرفة الأرقام والعمليات الحسابية هي أبسط أنواع المعرفة، ويستطيع الإنسان الأمي الذي لا يجيد القراءة أن يقوم بها، وكثير من الباعة والبسطاء يقومون بها أفضل من المتعلمين بخبرتهم العملية.
ويلي ذلك علم الجبر الذي يحتاج لمعرفة الأرقام والكتابة، وبعده الهندسة التي تحتاج لمعرفة الأرقام، ثم الرسم الهندسي كرسم زاوية أو مثلث وخلافه، وبذلك تكون الهندسة علمًا أكثر تركيبًا من الحساب والجبر، ثم تتدرج المعرفة إلى العلوم الطبيعية، حيث تحتاج الفيزياء إلى الإلمام المسبق بالرياضيات، ثم معرفة خواص المواد، ويزيد علم الكيمياء في المعرفة اتساعًا، بدراسة تحليل العناصر والمواد والخواص المختلفة قبل خلطها أو تحليلها، وبعد ذلك تتصاعد المعرفة إلى علوم النبات ثم علوم الحيوان وهما يستلزمان الإلمام والمعرفة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء، وتتدرج المعرفة بعد ذلك إلى العلوم الإنسانية النظرية كعلوم الدين والسياسة والاجتماع والجغرافيا، وبعدها الفلسفة.
هذا تصنيف العلوم من وجهة نظر كونت، وتأتي العلوم الدينية والسياسية من أصعب العلوم؛ لأنها مركبة تعتمد على عدة علوم أخرى فمثلًا العلوم الدينية تعتمد على علم اللغة والتاريخ والفلسفة وغيرها وأيضًا العلوم السياسية تعتمد على الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والمجتمع وغيرها، ثم تزداد صعوبة العلوم الدينية والسياسية بوجه خاص؛ لوجود مصالح عالمية وإقليمية ومحلية تسعى للتدخل؛ سواء بنشر إشاعات كاذبة أو إخفاء حقائق؛ مما يزيد من الصعوبة مع تداخل مصالح دنيوية ومادية وسياسية. وبعد ذلك تأتي مشكلة انتشار الأمية وضعف الثقافة بوجه عام في الوطن العربي:
فنجد على سبيل المثال - مصر - منارة العلم في الوطن العربي كانت نسبة الأمية عام 1952 تبلغ 80% وعام 1970 بلغت 50% وعام 2020 نحو 27% هذه هي نسبة الأمية في مصر التي يقوم أبناؤها بتعليم أبناء معظم الدول العربية، وللأسف في المقابل نجد نسبة الأمية في إسرائيل عام 2006 هي 4.6% فقط، ومعظمهم من عرب 1948.
ثم نأتي بعد ذلك للمتعلمين ونظام التعليم، وهل التعليم في وطننا ينتج عنه إنسان مثقف فاهم وقادر على استيعاب مشكلات وتحديات العصر؟ فللأسف هناك مشكلات كبرى؛ سواء في المناهج والإمكانات أو في التنشئة الاجتماعية أو حتى في الإنفاق على التعليم والبحث العلمي في وطننا مقارنة بالدول الأخرى، حيث نجد فصلًا تعسفيًا في المقررات الدراسية لكل مرحلة بداية من الثانوي العام، حيث تنقسم التخصصات في جزر منعزلة بعيدة عن بعضها البعض وبعيدة عن المنظور البيئي الشامل لمشكلات العصر الذي يستلزم تكامل المعرفة والثقافة.
فمثلًا مشكلة كورونا ترتبط بالطب والبيولوجي وعادات وتقاليد المجتمع، وترتبط أيضًا بالاقتصاد والسياسة، وتمثل ضغوطًا نفسية واجتماعية واقتصادية متنوعة، ولابد من مواجهتها من خلال المنظور البيئي الشامل، ولكن للأسف دراسة معظم التخصصات منعزلة عن بعضها بعضًا، فيكون الناتج إنسانًا ملمًا أو مجيدًا للتخصص الدقيق؛ ولكنه بمعزل عن باقي التخصصات، وعادة لا يفهم شيئًا خارج تخصصه، ثم أيضًا أساليب التنشئة الاجتماعية في معظم الأسر تركز على التفوق الدراسي فقط، ولا تسعى للثقافة العامة، مما يزيد من تركيز الطالب في تخصصه، ويكون عادة محدود الثقافة العامة رغم تفوقه في تخصصه، فنجد طبيبًا أو مهندسًا أو غيره يجيد تخصصه فقط، ويجهل الثقافة العامة، ولذلك ليس غريبًا أن يكون هؤلاء المتفوقون في الكليات العملية أكثر تفوقًا في الدراسة وأقل قبولًا للرأي الآخر والثقافة العامة، لذلك نجد كثيرًا من قيادات الجماعات المتطرفة من خريجي هذه الكليات؛ حيث تخضع لقوانين ثابتة ولا تناقش الرأي والرأي الآخر، والمهم حتى المتعلمين في وطننا العربي ونسبتهم قليلة ثقافتهم محدودة.
وننتقل بعد ذلك لواقع البحث العلمي في مصر ووطننا العربي، وهو مؤلم وخطير، وعلى سبيل المثال فإن متوسط ما ينفق على البحث العلمي في الوطن العربي أقل من نصف في المائة من الدخل القومي في العقود الأخيرة مقابل نحو 4% في إسرائيل، أي نحو عشرة أضعاف الوطن العربي؛ ولذلك نجد أن الاختراعات العلمية العالمية لإسرائيل تبلغ خمسين ضعف الاختراعات لكل الدول العربية مجتمعة، بل إن مقولة إن مثلث الفقر والجهل والمرض هو سبب التخلف مقولة خاطئة؛ حيث أرى أن المشكلة في الجهل فقط؛ لأن الإنسان المتعلم لن يكون فقيرًا حقًا لو تعلم وأجاد مهنة أو حرفة، ولن يكون فقيرًا والمجتمع المتعلم سيكون أفضل صحيًا وأقل في انتشار الأمراض؛ لأن الجهل يزيد المرض، وهناك مجتمعات كانت فقيرة وأصبحت غنية بفضل ثروات طبيعية، ولكنها أصبحت مجتمعات زادت فيها الأمراض؛ إذن المشكلة كلها في الجهل.
الخلاصة: أن التعليم وحده فقط هو الحل لمشكلة الفقر والمرض، وخاصة تعليم الدين، من هنا تأتي أهمية أن يكون الإنسان العربي مثقفًا وملمًا بقضايا واحتياجات عصره في الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد، وفي ضوء جغرافية وتاريخ المكان والزمان إذا أردنا تطبيق مبادئ الدين والشريعة، فالحل يكون من خلال نشر التعليم منذ الطفولة؛ فهذا هو الحل المضمون والمستمر، بعيدًا عن المصالح والصراعات الكبرى، وهذا ما فعله كل الأنبياء والرسل من خلال التعليم (اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).