تزول المدن وتندثر.. ويبقى المكان خير شاهد على تاريخها وحضارتها .. إنها عبقرية المكان كما وصفها د. جمال حمدان.
فمدينة الإسكندرية التي بناها البطالمة الإغريق، وظلت على مدى سنوات طويلة تقارب العشرة قرون، مركزًا للحضارة والثقافة، فكانت عاصمة مصر طوال عصر البطالمة والرومان، ورغم اندثارها، إلا أن المكان يخبرنا بالكثير عن أمجادها وعظمتها وجمالها.
وكذلك مدينة الفسطاط، فكانت أيضًا عاصمة لمصر؛ بل أول عاصمة إسلامية في أفريقيا، ذات مركز تجاري واقتصادي مهم، ومسرحًا للعديد من الحضارات، لكنها أحرقت فأصبحت رمادًا، فالمكان هنا يحمل الكثير والكثير من ذكريات وحوادث الماضي، وتأتي عبقرية المكان لتربط بين الماضي والحاضر بإقامة متحف الحضارات على أرض مدينة الفسطاط.
كان للموقع الإستراتيجي الذي تميزت به تلك البقعة من أرض مصر، السبب الرئيسي لاختيارها لتكون عاصمة مصر بعد الفتح الإسلامي عام 20 هجرية – 641م، فكانت منطقة فضاء ليس بها أي بناء سوى الحصن الروماني المعروف بحصن بابليون الذي يطل على النيل من بابه الغربي، فكان النيل في تلك المنطقة ينقسم إلى قسمين وتمتد المزارع بينه وبين جبل المقطم.
اكتشف المصريون القدماء ذلك الموقع المهم والذى يتحكم بطرق المواصلات التجارية الداخلية والخارجية بين مصر والشام وبين مصر والحجاز، فكانت لهم مدينة كبيرة ثم اندثرت، واستقر البابليون بتلك المنطقة عند نزولهم مصر، واتخذها الرومان مقرًا لدفاعهم عن أي اعتداء خارجي على مصر وبنوا حصن بابليون، واتخذها عمرو بن العاص عاصمة لمصر، وسميت الفسطاط وتعني (الخيمة).
بعد فتح مصر سار عمرو بن العاص وجيشه إلى الإسكندرية وفتحها بعد حصار دام لعدة أشهر ثم عقد صلحًا مع أهلها، فأراد اتخاذها عاصمة لمصر، ولكن عمر بن الخطاب رفض اتخاذ الإسكندرية عاصمة؛ لأنه لا يريد أن يحول بينه وبين المسلمين الماء (البحر المتوسط)، فرجع عمرو إلى مصر، واتخذ من ذلك الموقع الخالي من البناء عدا الحصن الروماني، عاصمة لمصر كأول عاصمة إسلامية في إفريقيا.
بعد أن استقر المسلمون في الفسطاط، كان أول ما تم بناؤه "الجامع العتيق" وهو ما يعرف الآن بجامع عمرو بن العاص وعرف أيضًا بتاج الجوامع، ثم بناء دار الإمارة لتكون مقرا للولاة، وشيدت البيوت حوله وبدأت الفسطاط تتخذ مظهر المدينة، بأسواقها التجارية والتوسع في بناء المساكن التي تفصل بينها طرقا عرفت بالحارات والأزقة والدروب، ومع التوسع العمراني ازدهرت المدينة اقتصاديًا.
ظلت الفسطاط مركز مصر الاقتصادي حتى أواخر حكم الفاطميين، فقد تعرضت عام 564 هجرية – 1168م لحريق هائل استمر أكثر من 54 يوما تسبب في تدمير نصف المدينة الشرقي بالكامل ولم يتبق منها سوى جامع عمرو بن العاص.
كان الحريق بأمر من الوزير شاور حاكم الصعيد في فترة حكم العاضد آخر الخلفاء الفاطميين نتيجة لصراعات، وبعد تولي صلاح الدين الأيوبي الحكم أمر بقطع رأسه لخيانته ولحرقه الفسطاط.
تحولت الفسطاط إلى تلال من الرماد لسنوات طويلة حتى 1912م؛ حيث بدأت أولى الحفائر الأثرية، والتي قام بها عالم الآثار المصري على بهجت والمهندس الفرنسي ألبرت جبرائيل نتج عنها اكتشاف بعض من البيوت والمنشآت من العصر الطولوني وحتى الفاطمي منذ القرن التاسع وحتى الثاني عشر الميلادي، كانت البيوت من الطوب الأحمر وتتكون من صحن مكشوف وقاعة رئيسية ومجموعة من الحجرات وحديقة بارتفاع أربعة طبقات ولا يزال أغلبها محتفظا بوسائل تزويد وتصريف المياه حتى الآن، وتوالت الاكتشافات حتى 1975م.
من أبرز معالم الفسطاط حصن بابليون والكنيسة المعلقة التي بنيت على برجين من أبراج الحصن الروماني وكنيسة أبي سرجة التي بنيت فوق المغارة التي احتمت داخلها العائلة المقدسة أثناء رحلتها إلى مصر ومعبد عزرا اليهودي وحفائر أطلال المدينة.