تنفرد القاهرة عن باقي عواصم العالم، إلى جانب أنها مدينة عريقة، فإنها تجمع آثارًا لحضارات متعددة ومتنوعة، تخبرنا حجارتها وحاراتها ودروبها عن أحداث كانت عبر السنين، نحاول من خلال هذه الكلمات تذكر البعض منها حتى نستفيد من أحداث الماضي.
عن القاهرة قال العالم الكبير مؤسس علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون عند زيارته لها عام 784 هجرية: "فرأيت قاهرة الدنيا وبستان العالم وكرسي الملك وإيوان الإسلام، تلوح القصور والدواوين في جوه وتزهو الخوانك والمدارس بآفاقه وتضيء البدور في عليائه، ومن لم يرها لم يعرف عزة الإسلام ".
ولد ابن خلدون في تونس، ثم جاء مصر وعاش فيها 24 سنة وتوفي بها ودفن في أرضها، إلا أن مكان مقبرته غير معروف على الرغم من تأكيد المؤرخين أنه دفن قرب باب النصر.
ولكونه من أبرز مؤرخي شمال إفريقيا، وسبقت نظرياته في علم الاجتماع ما توصل إليه مشاهير العلماء بعد قرون، فله رمزية كبيرة لدى التونسيين، فقد طالبوا في شهر أبريل الماضي بالبحث عن مكان قبر العالم التونسي الشهير المدفون في إحدى المقابر المصرية لاستعادة رفاته وإعادة دفنه في موطنه لمكانته الكبيرة لديهم، هكذا تبحث الشعوب عن رموزها تقديرًا لما قدموه من علم ومنفعة ليس لهم فقط، وإنما للعالم أجمع.
ومما يصعب من عملية البحث عن مقبرة ابن خلدون، أنه عند توسعة الشارع الموازي لمقابر الصوفية عند باب النصر سنة 2002م والتي دفن بها ابن خلدون، فربما كانت مقبرته في الجزء الذي تم اقتطاعه وهو بالتأكيد بمثابة جرح لجميع المهتمين بعلمه والمقدرين لما قدمه للبشرية.
والشيء بالشيء يذكر، وتتكرر المأساة بقرار إزالة أكثر من 2700 مقبرة تمثل حقبًا تاريخية متنوعة، لشخصيات أثرت في تاريخ مصر بشكل أو بآخر فكريا وثقافيا وسياسيا وحضاريا، بالإضافة إلى قيمتها العمرانية.
.. وعلى ذكر إزالة القبور، حرص المعز لدين الله الخليفة الفاطمي مؤسس القاهرة عند دخوله مصر قادمًا من المغرب، على إحضار توابيت آبائه ودفنهم في التربة المعزية والمعروفة بتربة الزعفران وكانت ملحقة بالقصر الكبير.
كانت لهذه التربة عوائد ورسوم وظلت محترمة طوال حكم الفاطميين، إلى أن هاجمها عساكر الأتراك أيام الفوضى أواخر حكمهم، فنهبوها وسرقوها وأخذوا قناديل الإضاءة - وكانت من الذهب - وأواني ذهبية وفضية ثمينة.
عندما أراد الأمير جهاركس الخليلي إنشاء خانه المعروف الآن "بخان
الخليلي" على أرض التربة المعزية أخرج منها عظام الخلفاء وأسرهم، وألقى بها في المزابل، وذلك أيام الناصر بن قلاوون.
وبعد مقتل جهاركس في دمشق بطريقة بشعة، لم يتبق من الخان الأصلي أي بناء، فأعاد السلطان الغوري بناءه أوائل القرن الـ16 وأضاف عليه أبنية جديدة وكان يقام بالخان سوق الرقيق فنقله إلى مكان آخر.
ثم اشتراه فأمر بهدمه وأعاد بنائه وأنشأ فيه المحلات والدكاكين، ولا يزال حتى الآن الباب العظيم وعليه نقوش وكتابات واسم الغوري وجملة "أمر بإنشاء هذا المكان المبارك السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عز نصره".
كما أنشأ بجواره ربعين وبوابتين بالرخام والزخارف، ولا يزال باقيًا على إحداهما اسم الغوري وألقابه.
عشق كثير من رجال النهضة المصرية سواء سياسيين أو علماء، "خان الخليلي" كانوا يرتادونه، واعتبره الزعيم سعد زغلول من أحب الأماكن إليه منذ أن كان يدرس في الأزهر وكان يقيم في مسكن استأجره في خان جعفر، وأصبحت مكانه "لوكاندة دار السلام "، كما كان الشقيقان مصطفى وعلي عبدالرازق يقيمان في مسكن خاص في ربع السلحدار تاركين قصرهما الفاخر في عابدين ليكونا على مقربة من الأزهر، وأقام حسن باشا صبري رئيس الوزراء في مسكن خاص في عطفة البرنس، وكذلك وزير الأوقاف أحمد علي، وكان طلعت باشا حرب يتردد على مقهى أحمد أفندي في الخان، ومكانها الآن الحرم الحسيني وبالطبع الأديب الكبير نجيب محفوظ ومقهاه الشهير بالخان وغيرهم من رجال الأدب والفن والموسيقي كانوا يجتمعون على مقاهي خان الخليلي.