Close ad

د. محمد حسين أبوالعلا يكتب: إثبات الثابت .. إسقاط للطموح التاريخي

8-11-2021 | 15:10

تظل القضايا الكبرى في حياة الشعوب تحتل بؤرة حيوية في العقل الجمعي، وتظل أيضًا تلك القضايا المهددة للوجود تغزو هذا العقل مشعلة داخله ثورة وعي وثورة إيمان بالحق وثورة يقظة قومية لا تهدأ مهما توالت عليها العقود والقرون، لا تتقادم ولا يخبو أثرها في ذاكرة الأجيال ولا تدخل في طي النسيان، لكن تختلف طرائق التعامل معها طبقًا لمعطيات اللحظة، وفي كل الأحوال يظل جوهر القضية هو الأمل القومي المنشود المرتبط بالطموح التاريخي للشعوب المقهورة.
 
ولعل القضية الفلسطينية تدخل ضمن جولات القضايا الصراعية التي تحركها الكتلة الغربية باحترافية وتآمرية بالغة الخطورة، لاقت من التصدي والإصرار والصمود ما يستوجب الإشادة والتعاطف والتأييد المطلق للحقوق المسلوبة، لكن علت صيحات فاترة تردد في الذكرى الرابعة بعد المائة لوعد بلفور المشئوم بضرورة الاعتذار عن هذا الوعد باعتباره يعد خطأً تاريخيًا، والاعتراف كذلك بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية والضغط على الكيان الصهيوني لوقف جرائمه وانتهاكاته بحق الشعب الفلسطيني وإنهاء احتلال أراضيه والوقوف عند حدود يونيو 1967، وهي نداءات ومطالب لها كل المشروعية الدولية والإنسانية التي لا يختلف عليها أو حولها، لكن السقطة السياسية والإستراتيجية في لحظة المواجهة هذه إنما تتمثل في مدى الإلحاح على أهمية اعتذار بريطانيا بعد ما يتجاوز القرن..
 
فهل يمثل الاعتراف بالخطأ التاريخي الجسيم نفيًا لحدوث الواقعة أم أن فداحة الواقعة تحمل هوية صاحبها، من ثم يصبح إثبات الثابت هراء سياسيًا؟ وهل تنكرت الكتلة الغربية ونفضت يدها من الواقعة حتى تنطلق موجات الإصرار على تقديم الاعتراف؟ وما هو المردود السياسي للجبهة الفلسطينية من جراء ذلك؟ أم أن مطالب الاعتراف بالخطأ لا تمثل سوى إشباع لحاجات معنوية وليست ميكانزمًا يحقق دافعية في مسار القضية؟ وهل يمحو الاعتراف بالخطأ جرائم الإبادة العنصرية التي مارسها الكيان الصهيوني طيلة أحقاب؟ وماذا لو رفضت بريطانيا؟ وأية ميكانزمات يمكن أن تجبرها على هذا؟ وهل تعتبر اللحظة المعاصرة في تاريخ القضية هي الزمن الإستراتيجي لانتزاع اعتراف مستحيل؟ ومنذ متى اعترف الغرب على اختلاف جبهاته بخطاياه تجاه الشرق العربى؟ وكيف يمكن للجبهة الفلسطينية أن ترتجي اعترافًا صادقًا من كيان تتأصل فيه داءات العنصرية المقيتة فضلا عن الحماقة الحضارية؟
 
ولعل الأكثر إثارة بل الأكثر فزعًا في مضمونات الخطاب السياسي الفلسطيني هو تلك المطالبة الأخرى بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ذلك تكفيرًا عن وعد بلفور باعتباره لا يزال شاخصًا كجريمة تطهير عرقي، وكل هذا لا يمثل غير منطق ملفوظ؛ لأن حقائق التاريخ ليست في حاجة للاعتراف بها أو تأكيد وجودها لدى الآخر المعادي، فكيف تطلب اعترافًا صريحًا بالمظالم التاريخية ممن تتعلق مصالحه بمحوك وإبادتك؟!
 
إن القضية في عمومها وتفصيلاتها هم يعلمونها يقينًا، ويعلمون أن الحقوق قد انتزعت بفعل القوة العسكرية والتوسع الاحتلالي، وأن قضية المسئولية التاريخية والقانونية والأخلاقية لا تعنيهم في قليل أو كثير، وإنما يعنيهم - ويعنيهم فقط - بسط النفوذ الأبدي واستعباد الشعوب وإذلالها تاكيدًا لاستعادة المجد البائد ليس غير.
 
ومن ذلك فالقضية في حاجة ملحة إلى آليات جديدة للمقاومة غير تلك النداءات الخرساء التي لا تدفع بها نحو منعطف جديد انطلاقًا من سيادة الطابع الفكري التقليدي الرتيب الذي لا يعي أن للقوة معاني عديدة متجددة، وأن القضية لن تحل مهما طال بها الأمد وأصحابها يعايشون انشقاقات حادة تبدد أي أمل في الالتفاف نحو هدف مشترك، وأن الإفراط في ممارسة لغة الشجب والاستنكار والاستهجان هي في حقيقتها تفريط مقنع وممارسة للانهزامية والتقهقر والغض من طاقات الذات وتعطيل فعاليتها بعد شوط نضالي سجله التاريخ السياسي، فلم يعد يكفي استنكار ذلك المقترح الصهيوني الأخير حول كيفية إزالة ونقل قبة الصخرة إلى خارج باحات الأقصى لبناء الهيكل اليهودي في ذات المكان، وهو ما يساير المخطط الصهيوني الذي لم يتورع عن تشكيل نحو اثنين وستين حركة وجمعية ومنظمة يهودية يمينية متطرفة تسعى منذ نصف قرن نحو هدف مشترك هو تهويد الحرم القدسي وطمس أي معالم عربية إسلامية، ومنها منظمة إحياء الهيكل، حراس الهيكل، الحركة من أجل إنشاء الهيكل، حركة الاستيلاء على الأقصى، إلى البدء، حركة نساء من أجل الهيكل، جماعة حراس المكبر، مؤسسة هيكل القدس.
 
وأية غرابة فيما نقرأ ونشاهد ونلاحظ ونتأمل خاصة إذا عدنا لمقولة شارون التى تحولت لواقع ملموس، وكنا نحسبها تدخل في دوائر الهرطقة السياسية؛ لكنها صارت حقيقة مذهلة.. اعطوني خمسة وعشرين عامًا وستتغير الخريطة تمامًا، ولن يكون في مقدور الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة ولا أي قوة في العالم أن تغير سياسة الأمر الواقع!!
 
لكن ماذا لو استفاق المارد العربي؟!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الفرعونية.. حضارة المستقبل

يتداعى الخيال ونسقط بلا حراك تحت أقدام الحضارة المصرية ... قالها شامبليون، بل إنه قبل أن يوجز هذه الألفاظ كان المعنى ثابتاً مترسخاً فى أفق الزمان.

د. محمد حسين أبو العلا يكتب: ذاكرة الجحيم الحضاري.. تساؤلات اللحظة

إن البشرية التي نامت في حصة التاريخ لن تغير طباعها ... هكذا تتسلل كلمات وول ديورانت عابرة آفاق الزمن، لكنها لم تأخذ مسارها في الوعي الإنساني العام متحدية

الأكثر قراءة