منذ فجر التاريخ ونهر النيل له مكانة عظيمة في وجدان المصريين، وله تأثيره الكبير في طبيعة وسلوك الشعب المصري، في التدين الفطري ونبذ العنف والصبر والحياة المستقرة وتقديس الحاكم والارتباط بالأرض وغيرها، وما القسم الفرعوني للنيل إلا تعبير عن مكانته في وجدانهم.
النيل كان سببًا للرخاء فكانت مصر سلة عذاء العالم، وأيضًا مطمعًا للغزاة، فشهدت أول غزو استعماري في التاريخ حين غزاها الهكسوس طمعا في خيراتها، ومنها انطلقت أول حروب التحرير حين طردت الهكسوس.
.. ولأنى دائما أربط بين الأحداث الجارية والتاريخ، فالتاريخ يعيد نفسه، أعداء مصر اتخذوا من النيل وسيلة للضغط عليها، وكم من المحاولات جرت، آخرها ما يحدث الآن في قضية سد النهضة، وهو تكرار لما حدث زمن الحروب الصليبية حيث تم الاتفاق مع ملك الحبشة (إثيوبيا) لقطع مياه النيل عن مصر بتحويل مجرى النهر حتى يمكن هزيمة المصريين، ولكن فشلت خطتهم.
ولأن النيل شريان الحياة، بدأت مصر منتصف القرن التاسع عشر تتخذ خطوات عملية لتأمين منابع النيل، خاصة وقد بدأت دول أوروبا في التوسع في الكشوف الجغرافية للقارة الإفريقية لأغراض استعمارية، مما يشكل تهديدا لمصالح مصر الحيوية، ويهدد بمنعها من استكمال حدودها الجغرافية المتعلقة بمنابع النيل إذا ما أصبحت تحت سيطرة أوروبا.
لذا تحرك الخديو إسماعيل وكان حاكم مصر، بصورة إيجابية لتحقيق ما يطلق عليه الآن الأمن القومي المائي، فحلمه أن تكون مصر دولة متقدمة أسوة بالدول الأوروبية، ولتحقيق هدفه ومع إدراكه بأن مصر مستهدفة، قرر أن يتم ذلك بموافقة الدول الكبرى حتى لا يتعرض لمثل ما تعرض له جده محمد على باشا. فكانت رغبته في تكوين إمبراطورية إفريقية على ضفاف النيل تمتد من البحر المتوسط شمالا حتى خط الاستواء جنوبا، لذلك عمل إسماعيل على توظيف المستكشفين الأوروبيين في خدمة المصالح المصرية، حتى يتمكن من إرسال حملات وبعثات استكشافية شملت السودان وأواسط إفريقيا وأقصى السواحل الشرقية للمحيط الهندي.
حقيقة حفل عصر إسماعيل بالرحلات الاستكشافية، وكانت سببًا في انتشار الحضارة والعمران في السودان، وتقدم علم الجغرافيا والخرائط بصورة فائقة، وحتى يتمكن من إرسال تلك البعثات استعان بضباط أمريكان وضمهم للجيش المصري، لعدم وجود أطماع استعمارية لأمريكا في إفريقيا، كما استعان بفرنسيين لإنشاء مدرسة أركان حرب لتدريب المصريين تمهيدًا لإرسال البعثات الاستكشافية، فبلغ ما تم إرساله حوالى ثلاثين رحلة بخلاف ما تم بالمشاركة مع المجامع العلمية الغربية والمجهودات الفردية كرحلات صموئيل بيكر وهى الأولى إلى منابع النيل، تحملت مصر كافة نفقات تلك البعثات من معدات لازمة ومؤن ورواتب الضباط والجنود.
جابت بعثة برئاسة الأميرالاى بوردى الأمريكي من ضباط الجيش المصري ومعه عدد من الضباط المصريين، الجهات الواقعة بين النيل والبحر الأحمر من القاهرة والسويس شمالا الى قنا والقصير جنوبا، فاكتشفوا طرق المواصلات ومناجم المعادن والمحاصيل في تلك الجهات. وفى 1874م اكتشف شالي لونج بحيرة "إبراهيم" (على اسم والد إسماعيل) كما اكتشف معظم مجرى النيل المسمى" بنيل فيكتوريا" وحقق هذا الاكتشاف نقطة كانت غامضة وهى أن نيل فيكتوريا يصب في بحيرة البرت ورسم الطريق من اللادور ومكركة جنوبي بحر الغزال.
وبعد فتح دارفور 1874م أرسل إسماعيل ثلاث بعثات، لاكتشاف جهات كردفان ودارفور كما اكتشفوامناجم الذهب في "الحمامة" شمال قنا، ورسم ارنست لينان دى بلنون ابن لينان مهندس القناطر الخيرية، الطريق بين غوند و كرو عاصمة أوغندا، وقتل وهو عائد من مهمته.
وقد رسم الضباط المصريون خرائط الجهات الواقعة بين تاجورا وبحيرة أوسا بالحبشة، وخريطة بلاد هرر، وخريطة الجهات الواقعة بين هرر وزيلع وخريطة بربره وملحقاتها.أما حملة الصومال فقد كشفت سنة 1875م سواحل البنادر الواقعة بين الأقبانوس ونهر جوبا.
وأمر الخديو إسماعيل بوضع خريطة مفصلة لأفريقيا وتعتبر أدق خريطة من نوعها في ذلك الحين وضعها عدد من خيرة الضباط المصريين وطبعتها مصلحة المساحة وحفظت بالجمعية الجغرافية.