د. محمد حسين أبوالعلا يكتب: سؤال المستقبل

4-11-2021 | 12:26

في لحظة غرائبية انتقل التاريخ من حالة الإبداع الفردي إلى النمطية الجماعية، من حركة تطورية إلى ارتداد سحيق، من أجواء الصخب إلى كهوف الصمت، من عقيدة الاجتماع إلى أطياف العزلة، من حكمة العقل إلى هوس الجنون، من الشعور واللا شعور إلى التبلد الباطني، من آفاق البصيرة إلى محدودية البصر، من راحة البوح إلى ألم الكبت، من التخاطر إلى الاعتياد، من الطمأنينة إلى اللا طمأنينة، من طموح مقدس نحو الحقيقة إلى زيف الهواجس، من المبدأ والقيمة إلى السيولة المعنوية، من الذوق الرفيع إلى الفجاجة الصارخة، من الفطرة إلى الإستراتيجية، من أحضان الطبيعة إلى غابات الرقمية، من الإنسان إلى العدم!!!

تلك بعض من لمحات مسيرة الترنح بين المعقول واللا معقول، بين التحدي والاستجابة، بين حلم الكمال ووتيرة الواقع، بين نورانية الروح وظلمة المادة.. إنها مسيرة العاصفة الزمنية التى خاضها الإنسان منذ ثمانية آلاف عام على ظهور أولى الحضارات، بل خاضها منذ عصر الكهوف إلى غزو الفضاء، لكن كيف يتغلب منطق الاستحالات فيكون حصادها كارثة أو فاجعة أو صدمة بعدما بلغت ذروتها المتجلية في تلك الثورة الرابعة الرامية نحو تفعيل الهالة المعلوماتية لتعيد تشكيل الواقع الإنسانى وتدفع به نحو أن يكون وجه النهاية متماثلًا مع ذلك الوجه القديم أو البدائي لذلك الواقع!!. وهو ما يستوجب الوقفة الموضوعية مع سؤال المستقبل..

ذلك السؤال المؤرق الإشكالي الذي يفرضه الظرف التاريخي على نحو: هل يمثل التقدم التقني الإعجازي تراجعًا لمسيرة الإنسانية بحكم توازي انطلاقاته مع كم وحجم المشكلات العالمية التي يعيش الإنسان المعاصر تحت وطأتها؟ وهل تمثل هذه العلاقة خطأ منطقيًا فادحًا؟ وهل أصبحت توجهات العلم المعاصر ومساراته التطبيقية لا تحمل مضموناتها أي رسالة حضارية بما يشكل خطرًا داهمًا على المستقبل؟ وهل كان من رمزيات الفحش التاريخي تنامي ظاهرة علم الجهل أو الجهل الممنهج - حسب اصطلاح الأمريكي "روبر بروكتور" - مع تجليات التقنية الرفيعة في بدايات العقد الثالث لهذا القرن؟ وهل انشطرت الكينونات الزمنية الأزلية الأبدية التي هي: الماضي، الحاضر، المستقبل، وغاب الاتساق التاريخي بينها؟ وهل أدى هذا الانشطار لغياب العلاقة الحتمية بين المقدمات والنتائج؟!

إن العلاقة بين المحاور الزمنية كانت دائمًا علاقة تفاعلية ترابطية وثيقة متصلة لكنها المرة الأولى التى تبددت وأحدثت قطيعة معرفية حادة داخل ذاتها، فلم يعد الحاضر وليد الماضي وصار المستقبل ينكر الماضي وكذلك لم يعد للحاضر سلطة زمنية على المستقبل، وعلى ذلك فقد تفككت الأواصر بين الكينونات الزمنية فلم تعد كتلًا متتالية؛ بل صارت شذرات مستقلة تغيرت معها مفردات المعادلة الكونية القائمة في جوهرها على السببية باعتبارها مبدًأ مطلقًا في الأفكار والأشياء والأزمنة.
 
لكن يبقى أن القضية المركزية في أي حديث عن المستقبل مهما تشعبت أبعاده فلابد أن نقف على أخطر الدلالات والمعاني المنبثقة عن أضابير الطوفان المعلوماتي، ألا وهي إزاحة سلطة العقل على المعترك المستقبلي وإحلال الوعي التكنولوجي بديلًا عنه باعتبار أن إمكاناته في التفكير والتأويل والتحليل والإبداع والابتكار والتجديد والتنظير والتساؤل قد باتت ركامًا ماضويًا معوقًا، مقارنة بآلة تبلغ سرعتها عشرة تريليون عملية في الثانية، ويخطط لها أن تبلغ نحو مائة تريليون عملية في الثانية أيضًا!!
 
فإن صح ذلك - وهو ليس بصحيح - فكيف نفسر ظاهرة خطيرة يشهدها عالمنا المعاصر وتتمثل في تناقضية بروز الانحسار المعرفي وشيوع التفجر المعلوماتي، وبالطبع يتبعها سؤال التحدي كيف يتحول هذا التفجر إلى وعي معرفي؟
 
إن الثورة المعلوماتية قد انطلقت من قناعة راسخة بهشاشة العقل البشري وضعفه وخوائه وحتمية الاستمساك بفكرة "البيو باور" التي تحدث عنها "فوكو" والتي تفرض أن يكون منطق التعامل مع البشر باعتبارها كتلًا صماء أو مجموعة أرقام، دون أدنى اعتناء بالفرق في حسابات الحياة والموت!! فرغم كون هذه الثورة قد جاءت نتيجة تطور مذهل للعقل، لكنها أصبحت ثورة عليه تستهدف تعطيله وإعاقته؛ لأنها تطور ذاتها بذاتها، من ثم فلا حاجة لتحريره، وإنما هناك ضرورات تستوجب عزله وإخضاعه واستعباده.
 
إن شراح العقل في طبيعته ووظائفه وميكانيزماته إنما يؤكدون دومًا أن به نحو مائة مليار خلية عصبية، وهو تقريبًا عدد نجوم درب التبانة، وأن عليك أن تسافر نحو 24 تريليون ميل للعثور على جسم له نفس درجة تعقيد العضو القابع فوق أكتافك، بل إن الأمر قد بلغ مع أقطاب العلم إلى القول: "أنه خلال المائة عام القادمة نود أن نعرف كيف يعمل الدماغ البشري، بينما الهدف للعقدين القادمين هو فهم دماغ ذبابة الفاكهة تلك التى تمثل بقعة ضئيلة مقارنة بالدماغ البشري، من أجل ذلك يتساءل "ديفيد إيجلمان" في دهشة قائلًا: "ما هذه التحفة المحيرة التي هي الدماغ، وكم نحن محظوظون لنكون من جيل لديه التقنية والإرادة لتوجيه اهتمامنا إليه، إنه الشيء الأغرب الذي اكتشفناه في الكون، وفي نفس المنحنى يخوض "ستيفن بينكر" قائلًا: أعتقد أن لا شيء يعطي الحياة هدفًا أسمى من إدراك أن كل لحظة من الوعي هي بمنزلة هدية ثمينة.. نعم لو كانت عقولنا بسيطة بما يكفي لفهمها، فلن نكون أذكياء بما يكفي لفهمها!! ومن هنا تجلت إرهاصات مشروع خريطة الدماغ البشري الهادفة نحو إعادة بناء الممرات التي تصل المناطق المختلفة من الدماغ، وعلى ذلك يظل هناك رادعًا قويًا يتواجه مع ما يقال عن تفوق الذكاء الاصطناعي على آليات العقل البشري، وهو أن الأول يمكنه معالجة الحقائق بشكل أسرع كثيرًا من الثاني، لكن الخطر إنما يكمن في أنه لا يفهم ولا يعني ما يقوم به، بجانب كونه لا يستطيع كذلك ممارسة الإحساس أو إدراك فحواه، وهو ما يقطع بوجود قصور في الأداء نظرًا لغياب عناصر قد أحدث خللًا في العقل البديل.
 
وعلى ذلك يظل تأمل معضلات التقدم فضيلة فكرية، لاسيما وقد أصبحت وضعية الإنسان في قبضتها، وهو ما يشغفنا نحو بلورة القضية على نحو: كيف تحول مسار الاستحالات التاريخية عبر المسيرة الإنسانية إلى ممكنات؛ بينما ظلت أسرار العقل أسيرة الغموض؟ كيف ترتكز الطبيعة المعرفية لمعادلة التقدم على محورين متناقضين، إحداهما يمثل طاقة تدميرية هائلة؟ هل تصبح أهم تحديات الوعي التكنولوجي تقويض الحماقات الرقمية؟ هل يصبح السعي نحو إبداع تجليات جديدة للعقل المعاصر هو أهم التحديات في مواجهة هذا الوعي التكنولوجي الذي خرج عن إرادة صانعه؟ كيف يمكن أن نخلق توجهًا عالميًا له طابع إنساني يهدف إلى تعجيل تطور بعض التقنيات وتجميد أخرى؟ كيف يمكن تحقيق التكاملية والتوازن الإيجابي بين التقنيات الثلاثة الأسرع تطورًا.. الطاقة الشمسية، الهندسة الوراثية، الشبكة التواصلية باعتبارها تقنيات تحكم حركة الحياة المعاصرة؟ كيف يمكن ترجمة الجدلية المستحكمة حول كون الذكاء الاصطناعي هو الحدث الأكبر في تاريخ الحضارة الإنسانية؛ بينما هو الحدث الأسوأ المعجل بنهاية العالم؟ هل كانت بواعث الثورة الرقمية جراء تراكم الإحباطات من امتدادات طلسمات العقل؟ كيف أمكن تغييب تيار الحداثة الداعم لمركزية الذات وعلوية العقل وحصانة القيم؟ ما هو المردود البراجماتي إزاء تفاعل الرقميات واختفاء البشر؟ كيف يدفع جموح حركة التقدم إلى فضاءات الفناء؟ كيف يتسق شيوع الخوف والفزع بين البشر في ظل ثورة خارقة طرحت أنماطًا متباينة من الرفاهية؟ هل يمثل الأفق المستقبلي - على تعدد مناحيه - مأزقًا وجوديًا حادًا محال تجاوزه؟
 
إنها تساؤلات لانهائية، لكنها تقود نحو إجابة واحدة هي دمار اليقين!!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: