طالعت مثل الغالبية العُظمى من المصريين افتتاح مجمع السجون في وادي النطرون في مشهد غريب علينا جميعًا لم نشهده من قبل في مصر ولا في منطقة الشرق الأوسط كلها، وتابعت العديد من ردود الأفعال التي تأرجحت بين التشكيك في مصداقية الحدث وبين من صنفه واقعًا لتجميل الأداء الحكومي ربما طالته بعض المبالغة بإظهار السجن كصرح متكامل للمعيشة والإصلاح والإنتاج، حتى جاءتني الفرصة وكنت من المحظوظين الذين شَرفوا بمشاهدة هذا المجمع على أرض الواقع وسط ذهول أصابني وتقدير لا يوصف في حق هذا الإنجاز ؛ بدءًا من إطلاق تسمية (مركز الإصلاح والتأهيل) عليه كبديل لكلمة (سجن) إلى تغيير مُصطلح (قطاع السجون) في الوزارة لقطاع (الحماية المُجتمعية) وأخيرًا رفع كلمة (سجين) من قاموسنا؛ لما تحمله من وصمة ومَهانة واستبدالها بكلمة (نزيل).
جاء افتتاح المجمع والانتهاء من تشييده في مدة لا تتجاوز العشرة أشهر؛تنفيذًا لتطوير منظومة التنفيذ العقابي وفقًا لثوابت الإستراتيچية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقتها القيادة مؤخرًا، لم يكن مجرد كلام للإعلام أو قرارات حبر على ورق؛ فلقد شَهدنا مكانًا يستوعب نُزلاء أثنى عشر سجنًا يمثلون 25% من إجمالي عدد السجون،تم تصميمه بأسلوب علمي تكنولوچي اعتمادًا على برامج الإصلاح والتأهيل من خلال الدراسات القائمة على كيفية التعامل مع المُحتجزين وطرق تأهيلهم لأول مرة في تاريخ السجون ،مع التمكين الكامل لهم من أجل الاندماج الإيجابي المجتمعي عقب خروجهم بعد انقضاء فترة العقوبة.
وجدنا كل ما يَكفُل أمان وشروط الظروف الصحية ؛بدءًا من التهوية والإنارة الطبيعية والمساحات الشاسعة للتريِّض وأماكن لإقامة الشعائر الدينية وفصول دراسية لتنمية الذات ثقافيًا ودراسيًا لمحو أُمية البعض أيضًا ، أماكن لممارسة الهوايات، مراكز للتدريب المهني والفني، ورش مختلفة تَتبع منطقة التأهيل والتي تَضُم أيضاً مناطق زراعات مفتوحة وصوب زراعية وثروة حيوانية وداجنة تَصُب إنتاجها في منطقة خارجية تنتمي للمركز، بها منافذ بيع منتجاته، مع فتح قنوات تسويقية لبيعها في معارض قطاع الحماية المُجتمعية، واللافت للانتباه هو توجيه عائد البيع التحفيزي للنزيل مع إعطائه حرية التصرف فيه؛بتسليمه لأسرته أو لإدارة مشروعه الخاص خارج أسوار المجمع.
ما أثلج صدري حقًا؛ هو ذلك المستشفى المركزي المُجهز بأحدث المُعدات والأجهزة الطبية وغرف عمليات تشمل جميع التخصصات وغُرف عزل في حالة الأوبئة، وقسم للطوارئ لا تقل جاهزيته عن مثيله في المستشفيات الكبرى،بالإضافة لصيدلية مركزية مُجهزة على أعلى مستوى، وقسم للتحاليل والأشعة ووحدة للغسيل الكلوي،كل هذا مُحاطًا بكافة الإجراءات الاحترازية والتي تشمل النزيل وزائريه.
للمُشككين أقول اذهبوا وشاهدوا طفرة مصر في حقوق الإنسان والمسوا التغيير الجدي في كل منظوماتنا على أرض الواقع، ليست دعاية تجميلية وإنما هي (مصر الجديدة)؛ التي تغيرت مفاهيمها وتصنيفاتها وسبقت بها دولًا عدة؛ فالمُذنب إنسان أخطأ حصل على عقوبته طبقًا للقانون، آن أوان تنفيذها في منظومة إصلاحية عقابية شاملة؛يُعامَل فيها كإنسان تحت مظلة إعاشة ورعاية طبية وتأهيل للقادم؛يخرج بعدها للمجتمع عضوًا فعالًا ينتج ولا يَضُر، ولا يُصنف في خانة العبء المجتمعي أو العضو الفاسد المُهمَش فيعتاد الإجرام ويسعى فسادًا دون مَهابة العودة للسجن مرات أخرى.
وللعُملاء -تحت مسمى النشطاء- حاملي لواء المقارنات بين مصر ودول الغرب في كافة أوجه حقوق الإنسان، أقول إن عدد السجون الفيدرالية والحكومية في الولايات المتحدة الامريكية بلغ 1800 وحدة بمعدل أعلى من عدد الكليات والجامعات طبقًا للاحصائيات الأمريكية؛ ففي أجزاء كثيرة من أمريكا - وخصوصًا الجنوب - ثمة أشخاص يعيشون في السجون أكثر من المقيمين في الحرم الجامعي، بين ظروف معيشية سيئة وأمراض - وخاصة للسجين الزنجي - ولا يختلف الأمر عنه في العديد من البلدان الأوروبية وخاصة الشرقية منها وسط تنديد بسوء المعاملة والتعذيب النفسي والجسدي ووسط دعوات صريحة بضرورة إعادة هيكلة منظومة السجون، دائماً ما تذهب أدراج الرياح.
ونتساءل أخيراً لماذا تَستكثر الغالبية الخطوات الإنسانية الإصلاحية للدولة المصرية؟ وكأن إلقاء تُهم تقصير الدولة في حقوق الإنسان هو الفعل الحلال والاعتراف بإنجازاتها في هذا المجال هو الفعل الحرام! ونتمنى أن نجد إجابة!