Close ad

محمد إبراهيم الدسوقي يكتب: أخلاق الملائكة

31-10-2021 | 19:00

شاهدتُ مقطع فيديو بديعًا وراقيًا للإذاعية الرائدة الراحلة "صفية المهندس"، وكانت تتحدث فيه بزهو وفخر عن أبيها الأستاذ "زكى المهندس"، وكيف كان عفيف اللسان، ولم تلتقط أذناها كلمة نابية واحدة خرجت من بين شفتيه، وأدبه الجم في تعامله مع أبنائه، وقالت: "إن أخلاق والدها كانت أخلاق ملائكة".
 
لا إراديًا وجدت نفسي أقارن بين كلام "صفية المهندس" العذب الوقور عن والدها، وما نتابعه من مهازل وفضائح عائلية اتخذت من وسائط التواصل الاجتماعي ساحة شاسعة لإدارتها، وتبادل الاتهامات والتجريح بين أفراد الأسرة الواحدة بصورة تخلو في أحيان كثيرة منِ أدنى الدرجات المتعين الالتزام بها من قواعد وآداب ومحاذير في العلاقات الإنسانية العادية، فما بالك إن كانت بين الأب والأم وأولادهما داخل الأسرة، حتى لو كانت خلافاتهم ومشاحناتهم في أوج شدتها.
 
لقد رأينا العجب العجاب، ووقائع أكثر من أن تحصى في الآونة الأخيرة يندى لها الجبين، ويخجل منها المرء العاقل المتزن الرشيد، فقبل فترة وجيزة خرج أب بلغ من العمر عتيًا في بث حي على "الفيس بوك" متهمًا ابنته المطربة ذائعة الصيت بإهماله وتركه فريسة للمرض يفتك به، دون أن تكلف خاطرها إرسال أموال إليه تعينه وتمكنه من تلبية احتياجاته المعيشية الأساسية، وبطبيعة الحال لم تصمت الفنانة ولم تغض الطرف وعددت في لقاء تليفزيوني ما فعلته معه، مؤكدة أنه لم يكن نعم الأب بعدما طردها وأمها إلى قارعة الطريق في سن مبكرة، وأنها لم تر منه يومًا حسنًا، وأنها أنهت إلحاحه وابتزازه الواضح بمنحه ما طلبه من مال، وأنه لم يراع ظروفها المالية المتعثرة.
 
إلى أن وصلنا للسجال العجيب الدائر على أشده هذه الأيام بين نجمة سينمائية مشهورة وأبيها، وتراشقهما وتنابذهما عبر "السوشيال ميديا"، فهي تتهمه بشيء ما، ليهرع الأب لدحضه وتكذبيه، متحصنًا بصور لخطبتها قبل أن تدق الشهرة أبوابها، وتتصرف معه بهذا الشكل.
 
هذا قليل من كثير تعج به وسائل التواصل الاجتماعي، وتتلقفه المواقع الإلكترونية بنشرها أخبارًا تلو الأخرى عن مستجدات مسلسل "الفضائح العائلية"، والرأي العام، أو لنقل شرائح عديدة منه مقبلة بنهم شديد على البحث عن المزيد من حلقاته، فهى تسلية مجانية في نظرهم، ووسيلة يروون بها عطشهم لأحاديث النميمة والشائعات التي تكون زادًا لهم ولغيرهم من المتابعين حينما يجلسون معًا يتسامرون ويضحكون على المقاهي والطرقات.
 
فما الذي أوصلنا لهذا الحال المتردي والبائس، وما الذي تغير في قيمنا ومعاييرنا الاجتماعية والأخلاقية، وفي التركيبة الأسرية التي كان قوامها وعمادها المحافظة على أسرار البيوت وعدم فضحها وإخراجها للعلن، مهما كانت الأسباب والضغوط، وما المتعة التي يجدها مَن يُشهرون اليوم بأسرهم، وكيف يتعايشون بسهولة مع عار لن يمحى وسيبقى أبد الدهر، وأين اختفت وتوارت عن الأنظار حمرة الخجل؟
 
أسئلة محيرة وإجاباتها تكاد تكون غامضة وملتبسة على كثيرين منا، وأسعى للعثور على تفسير منطقي يقبله العقل ويستريح إليه، وظني أن التفسير المأمول والمريح مقطوع الصلة "بنداهة السوشيال ميديا" التي استحوذت على أفئدة وعقول الملايين، الذين يعتبرونها طوق نجاة يرفعهم لعالم الشهرة وما به منِ المال الوفير، بعدما رأوا من سبقوهم يجنون أموالًا طائلة منها.
 
وما يعزز انقطاع صلته بهذه النداهة أن أطراف فضائح العائلات من المشهورين، ولا يحتاجون لركوب صهوة جواد "الترند"، حتى يكونوا في بؤرة الرصد والمتابعة، فهم في الأصل تحت دائرة الضوء الكثيف والباهر وليس خارجها، إذن أين مصدر الخلل الذي جعلنا نسقط سقوطًا حرًا ومستمرًا في هذا الجُب العميق؟!
 
العلة فيما شهده مجتمعنا من تغييرات وتقلبات متسارعة في عصر "الثورة الرقمية الكاسحة"، وجانب من تلك التحولات ضرب العمود الفقري للمجتمع، وهو الأسرة ومنظومة القيم الحميدة المرتبطة بها، وأضحى البعض يعتبر التحلل والانسلاخ من نظرة التقديس للعائلة وما يتصل بها، سواء كبر أو صغر، حتميًا لمسايرة ما استجد من تطور وحداثة، ورغبة في تقليد الغربيين والأمريكيين في سلوكياتهم وعاداتهم، حتى لو كانت ذميمة.
 
وكانت النتيجة ظهور تيار متنامٍ منِ بين خواصه التراجع الحاد في متانة وصلابة الوشائج الأسرية، وانكفاء كل شخص بالعائلة على ذاته، دون أن يكترث، ولو بقدر معقول بالمحيطين به ومراعاة خاطرهم، وقد يعتبر هذا النمط الأب أو الأم لا يمثلان سوى محفظة تمده السيولة النقدية اللازمة في صغرهم وشبابهم، والتواصل يكون في أضيق الحدود، وبالمناسبات المجبر على المشاركة فيها، فالنزعة المادية والتوحد مع الذات مقدمان على ما عداهما.
 
مشاعر المحبة والتراحم نزعت، أو قل خفتت، وبات التجرؤ والتجاوز مع الكبير والصغير سمة واضحة، بمن فيهم الآباء والأمهات ولأتفه الأسباب، ولم تعد الهيبة العائلية حاضرة وسقطت سقوطًا مروعًا ومخجلًا، وأغلقت الآذان عن الاستماع للنصح والإرشاد، ومراجعة النفس، لتعديل العيوب ومداواة السلبيات، ولم يعد ذلك موجودًا حتى في الريف المعلوم عنه توخي وحرص أهله على العادات والتقاليد المتوارثة، ومنها تبجيل الكبير واحترامه.
 
ونؤكد أن العيب في حد ذاته ليس فيما يطرأ على المجتمعات من تغيير أراه يعكس الديناميكية والحيوية، وليس في نشوب الخلافات الأسرية، فهي أمر طبيعي لا يخلو منه بيت مصري تقريبًا، لكنه في التعمد الغبي لهدم الأطر القيمية والأخلاقية واختلال موازينها التي تحافظ على توازن المجتمع واستقامته، ومَن يمسكون بمعول الهدم يتوسعون باتجاه القيم الدينية التي تعلي من قدر ومكانة الأب والأم، وتدعو للعمل على راحتهما وتوقيرهما، فأي دين سماوي، أو وضعي يقبل بإهانتهما وتجريسهما وفضحهما بهذا الشكل القبيح على حوائط ومنتديات "السوشيال ميديا" وأخواتها.
 
إن الأمر جد خطير، ويلزمه تدخل عاجل منِ قبل خبراء الدراسات الاجتماعية الذين يجب عليهم تشريح ما نحن فيه، والإشارة لمواضع العلل ومسبباتها وطرق علاجها، وأن يفهم الناس الغرض الصحيح منِ استخدام  التكنولوجيا الحديثة، فبعضنا يقدم سوء الاستخدام على حسنه، وذلك حتى نعيد للأسرة مكانتها وجلالها.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الوحش الأفغاني

بين جبال أفغانستان الشاهقة يختبئ مقاتلو تنظيم داعش خراسان الذى أعلن مسئوليته الشهر الماضي عن العملية الإرهابية التي استهدفت مركزًا للتسويق قرب العاصمة

الأكثر قراءة