لم يكن علي مبارك معلما، ولم يعد نفسه ليكون معلما، لكنه كان دائما الأول فى الهندسة والحساب.. وما قام به للنهوض بالتعليم نابعا من تجربته الذاتية استلهمها من الواقع الملموس، ومن نظم التعليم فى أوروبا وبلورتها بما يتلاءم مع البيئة المصرية.
اعتمدت نظريته فى التعليم، على أن المدرسة لن تصبح أداة للتعليم الصحيح ما لم يكن بها المعلم الصالح، ولم تؤتِ ثمارها ما لم تتواءم مع البيئة، وتكون البيئة نفسها حقلا صالحا لتلقي التعليم وعلى درجة من الوعي والمعرفة، ولكى يتم ذلك فيجب تزويد المجتمع بالمدرسة الصالحة.
وضع علي مبارك سياسة مرسومة للتعليم استحق من أجلها أن يلقب بـ " أبوالتعليم فى مصر"، فقام بصنعها ووضع خططها وأشرف على تنفيذها، وكانت البداية إحياء المدارس القديمة ونشر التعليم الشعبى من خلال التعليم الأولى، على اعتبار أن التعليم للشعب وليس لسد حاجة الدولة من الموظفين.
استأذن علي مبارك الخديوي إسماعيل فى نقل المدارس من العباسية إلى درب الجماميز وكانت عبارة عن عدة فصول وليست كما نعرفها الآن فخصص سراى الأمير مصطفى فاضل شقيق الخديوي لتكون مقرا لها والتى عرفت بالمدرسة الخديوية، وجعل سلاملك السراى مقرا لنظارة المعارف.
ثم بدأ فى تحويل كثير من الكتاتيب إلى مدارس نظامية فى القاهرة والأقاليم، وجعل كثيرا من الأماكن الموقوفة بعد إصلاحها مدارس نظامية.
وبالنسبة للإنفاق على هذه المدارس، فإلى جانب ميزانية الحكومة، استعان بجزء من أموال نظارة الأوقاف فى الإنفاق على التعليم، وقرر على القادرين من آباء التلاميذ دفع مصروفات قليلة وإعفاء غير القادرين، ومن جانبه خصص الخديوي لهذه المدارس إيراد تفتيش الوادى بالشرقية، كما منحها بعض الأملاك التى آلت لبيت المال من بعض التركات.
أشرف علي مبارك على عملية التعليم وعلى الطلبة والمدرسين، وألف كثيرا من الكتب المدرسية ووضع المناهج لعدد من المدارس العليا منها المهندسخانة، كما أنشأ الصحافة المدرسية فكانت أولها "روضة المدارس" 1870م، وجعل رفاعة الطهطاوي مشرفا عليها.
أعد لائحة لتنظيم التعليم شملت 40 بندا بدءًا من إنشاء المدارس الأولية والثانوية حيث تضمنت إنشاء أربع مدارس مركزية فى طنطا والزقازيق والمنصورة والجيزة إلى جانب الموجود فى القاهرة والإسكندرية، وأربع مدارس فى الوجة القبلى فى بنى سويف والمنيا وأسيوط وقنا، وجميعها بها أقسام داخلية، وإشراك الأهالي فى تكاليف البناء والأدوات اللازمة.
تضمنت اللائحة وضع جميع المدارس تحت أصول تنظيمية، وامتحانات سنوية تحت ملاحظة وتفتيش من الحكومة، كما حددت الزى المدرسى لتلاميذ المدارس المركزية، إلى جانب التعريف بأغراض التعليم وتوجيه المعلمين.
ومما يبعث على الإعجاب بهذه اللائحة تضمنها إرشاد المعلمين إلى الطرق الواجبة لتحقيق التربية الصحيحة والغرض الحقيقى من التعليم، فالتربية هى (اكتساب الأدب وحسن السلوك)، والتعليم هو(حصول أبناء هذا القطر على ما يوجب إصلاح شأنهم وشأن أهاليهم ليفوز الوطن بثمرة التقدم لأبنائه) وتأكيدها على تلقين الأطفال بالطرق البسيطة، وتجنب العنف بالضرب أو السب عند تأديبهم وإنما بالنصائح الحسنة وملاحظة أطوار وحركات الأطفال.
من الطبيعى أن تحتاج هذه المدارس إلى مدرسين، مما جعل علي مبارك ينشئ مدرسة دار العلوم 1871م، لتخريج أساتذة اللغة العربية والآداب للمدارس الاإبتدائية، أما لتدريس الرياضيات والتاريخ والجغرافيا واللغات الأجنبية، فتم اختيار مدرسيها من أوائل خريجي المدارس العليا مثل المهندسخانة ومدرسة الإدارة " الحقوق"، وتم اختيار طلاب دار العلوم ممن اجتازوا الامتحان من الطلبة الأزهريين، وجعل التعليم بها مجانا مع راتب شهري للطلبة وكان لإنشاء دار العلوم الأثر الكبير فى إحياء اللغة العربية و آدبها.
وكان لعلي مبارك دوره الثقافى بإنشاء الكتبخانة "دار الكتب المصرية" 1870م، فى درب الجماميز، فوضع قانونا لضبطها وعدم ضياع كتبها، وكان ينفق عليها من ميزانية المدارس.
ظهر مؤلفه الضخم "الخطط التوفيقية" لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة فى 20 مجلدا، سنة 1888م وكان وزيرا للمعارف، وهو بحق دائرة معارف متكاملة، ومازالت مصدرا مهما لتاريخ مصر.
استمر علي باشا مبارك ينشر التعليم وينشئ المدارس إلى أن استقالت الوزارة 1891م، فعاد إلى بلده لمباشرة أملاكه إلى أن مرض فعاد إلى القاهرة للعلاج وتوفي 1893م بعد 40 سنة من العطاء.