لا شك أن التعليم كان الركيزة الأولي للنهضة العلمية التي شهدتها مصر منتصف القرن التاسع عشر، والتي نتج عنها بزوغ أعلاما عظاما في مختلف العلوم والتخصصات، نقلتها من عصورها المظلمة إلى عصر النهضة واليقظة والتحضر مما رفع من مستوى البلاد وجعلها في مصاف الدول الأوروبية في تلك الفترة.
علي باشا مبارك أحد هؤلاء الأعلام، بل يعد رائدهم لما يتميز به من تعدد مواهبه، وإثبات براعته منذ أن كان طالبا متفوقا، وحين أصبح معلما ومهندسا وإداريا ووزيرا لعدة وزارات في آن واحد، فهو الملقب بـ "أبوالتعليم في مصر" لوضعه أول منظومة للتعليم، ومؤسسا للعديد من الكيانات الثقافية، وكان أول وزير للري فله الكثير من المشرعات الحيوية، وواضع أول تخطيط وتنظيم لمصر المحروسة وهو مازال باقيا حتي الآن وسط القاهرة، وكان مفاوضا ناجحا في فض النزاع بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس واختتم حياتة بمؤلفه الضخم "الخطط التوفيقية" لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة في 20 مجلدا، فأعماله تشهد بأنه باني معظم المعالم الحضارية في مصر الحديثة.
ولد علي مبارك سنة 1824م بقرية برنبال بالدقهلية، كان والده إماما وخطيبا وقاضيا في قريته فعرفت عائلته بعائلة المشايخ، وبسبب الظلم المسلط على الفلاحين في تلك الفترة تركت عائلته القرية واستقرت في عرب السماعنة بالشرقية. أصر والده على إلحاقه بالكتاب ليتعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة، ولكن لشدة قسوة الشيخ، هرب علي مبارك رافضا الذهاب للكتاب.
كان والده لديه إصرار على تعليمه فألحقه للعمل في العديد من المهن ولكن لم يقتنع علي مبارك بأي منها، واخيرا ألحقه للعمل لدى "عنبر افندي" مأمور زراعة القطن بأبي كبير، وهناك تغيرت حياته كلها عندما رأى المأمور وكان حبشيا أسود فوجد كبار القوم يحترمونه ويتقربون إليه، فانبهر بتلك الشخصية مصمما في قرارة نفسه أن يكون مثلها.
وعندما سأل عرف أن المأمور درس في مدرسة الجهادية بقصر العينى. فسعى بشتى السبل للالتحاق بهذه المدرسة.
في تلك الفترة كان هناك مفتشون يجوبون القرى لاختيار أنجب التلاميذ وأذكاهم لإلحاقهم بمدرسة قصر العينى، فاستطاع معرفة موعد وصولهم، فاقتنعوا به وتم اختياره وأصبح تلميذا بمدرسة قصر العينى، وكان عمره عشر سنوات.
انتقل بعدها إلى المدرسة التجهيزية بأبي زعبل بعد أن خصصت مدرسة قصر العيني لتعليم الطب. ولنبوغه في دراسته تم اختياره للالتحاق بمدرسة المهندسخانة ببولاق فدرس بها خمس سنوات.
وعندما قرر محمد علي باشا إرسال بعثة إلى فرنسا تضم المتفوقين من هذه المدرسة وقع عليه الاختيار ليكون ضمن "بعثة الأنجال" التي سافرت إلى فرنسا 1844م وضمت بعض أبناء واحفاد محمد على باشا ومنهم الأمير إسماعيل الخديوي فيما بعد.
وفي باريس أنشئت المدرسة المصرية لتعليم الطلبة اللغة الفرنسية فالتحق بها علي مبارك وحقق تفوقا وأصبح أول البعثة.
كانت البعثة لتعلم الفنون الحربية، ولكونه الأول على البعثة التحق لمدة عامين بمدرسة المدفعية والهندسة الحربية وخصصت له الحكومة المصرية راتبا شهريا قدره 250 قرشا، كان يرسل نصفه إلى أهله في مصر.
استمر في باريس خمس سنوات تعرف خلالها على المدارس والجامعات ونظم التعليم والحياة الاجتماعية بها واختزنت كل هذه المعارف في ذاكرته والتي استثمرها فيما بعد.
عند عودته إلى مصر عين مدرسا بمدرسة طرة الحربية ثم ناظرا لمدرسة المهندسخانة، ثم شارك في حرب القرم لمدة عشرة أشهر عاد بعدها إلى مصر بعد قرار من سعيد باشا والي مصر بتسريح الجنود وإعادتهم إلى بلادهم ورفت كثير من ضباط الحملة ومنهم علي مبارك.
ساءت أحواله المالية ففكر في العودة إلى بلده ومزاولة الزراعة، ولكنه مارس التجارة ليتكسب منها، فقام ببيع الكتب التي كان يطبعها أثناء نظارته للمهندسخانة، وازدادت حالته بؤسا إلى أن توفي سعيد باشا 1863م، وهنا كانت بداية فصل جديد في حياة علي مبارك بعد أن أمضى 14 سنة هباء دون الاستفادة من علمه ودراسته.
وللحديث بقية