كم كان قرارا متشنجا وعصبيا بتجميد مقعد سوريا في مجلس جامعة الدول العربية، بينما استمرت سوريا تشغل مقعدها في الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة.
والعصبية في القرار الذي اتخذ في ظل السيولة السياسية في العالم العربي إثر موجات الربيع التي لم تعرف كيف وأين تضرب، أنه جاء بعد تهديد بقبول "مبادرة" عربية تفضي إلى تنحي الرئيس بشار الأسد مسايرة لموجات التنحي السائدة، وأن يكون ذلك في غضون ثلاثة أشهر، أو تجميد العضوية.
كان ذلك القرار العربي في منتصف نوفمبر 2011، وتبعه قيام دول عربية بقطع العلاقات الدبلوماسية وكافة أشكال العلاقات الأخرى مع دمشق، للضغط على "النظام" السوري، ومن بينها القاهرة، التي لم تبق أبدًا على أي قرار للرئيس المعزول محمد مرسي، سوى هذا القرار المعيب، والذي لم تستشر فيه وزارة الخارجية. وأتذكر الكاميرا على وجه الوزير محمد كامل عمرو في ذلك الصيف البعيد من عام 2013، وهو يستمع مثلنا لقرار قطع العلاقات..
لكن القاهرة لم تذهب بعيدا في عداء دمشق، وجمعت المعارضة السورية من الداخل والخارج واستمعت للجميع، كما أن السوريين في مصر يعاملون كمواطنين في بلدهم، وهذه حقيقة نلمسها جميعا. كل ما طلبته القاهرة هو عدم انغماس السوريين في الشأن السياسي المصري. ومن رأي منهم أنه لا يستطيع تنفيذ هذه الرغبة لإدخاره أشواق وشواغل إخوانية، أو يتشاطر خطط مع دول لزعزعة الاستقرار في مصر، غادر آمنا إلى الخارج.
ونرى مقاربة مصرية جديدة مع الملف السوري ولا يمكن، في هذا الإطار، إغفال لقاء وزير الخارجية المصري سامح شكري مع نظيره السوري فيصل المقداد قبل أسبوعين في مقر البعثة المصرية في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وكان الحوار صريحا كما كشف شكري في موسكو أخيرا، وأكد فيه أن مصر راغبة في أن تكون "فاعلة في معاونة سورية على الخروج من هذه الأزمة واستعادة موقعها ومكانتها في إطار الأمن القومي العربي".
ولقاء الوزيرين الأول من نوعه منذ عشر سنوات ليس هينا أو مجاملة دبلوماسية في غير موضعها، وهو بتعبير شكري "جولة أولى" وبالتالي نتوقع جولة ثانية حاسمة تعيد العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة ودمشق، بعد أن أعادت دول عربية مثل الإمارات والبحرين وسلطنة عمان فتح سفاراتها في عاصمة الأمويين.
كما ترتفع المؤشرات بشأن موقف الأردن التي استضافت قبل أيام اجتماع وزراء الطاقة في مصر ولبنان وسوريا لبحث إمداد لبنان بالطاقة الكهربائية عبر سوريا.
وفي شهر يوليو الماضي وعقب لقاء مع الرئيس الأمريكي بايدن في البيت الأبيض قال الملك الأردني عبد الله الثاني لشبكة CNN : "علينا أن نكون ناضجين.. بشار الأسد باقٍ ويجب التفكير في طريقة الحوار معه.. هل نريد تغييراً في النظام أم تغييراً في السلوك؟ لكن الإبقاء على الوضع القائم... يدفع ثمنه الشعب السوري".
هنا لابد أن تكون مصر حاضرة لا لتلحق بركب العودة إلى دمشق ولكن لتقود التحركات من أجل عودة سوريا إلى حاضنتها العربية، فبعد سنوات من العداء مع حكام دمشق فإن الأمر في حاجة إلى توافق واضح، وإلى اتفاق على أهمية عودة سوريا وحجم الفرص والمكتسبات التي يمكن لهذه العودة أن توفره للشعب السوري نفسه، إذ لم يوفر تغييب سوريا عن المشهد العربي سوى مزيد من المعاناة وصم الآذان عن سماع وجهة نظر دمشق ومناقشتها والتخلي مع سبق الإصرار والترصد عن الدور العربي في سوريا.
أما المعارضة السورية في الخارج فتعارض خطوات التقارب مع "نظام" الأسد، وتسميها إعادة "تطبيع العلاقات" بكل ما تحمله كلمة "تطبيع" من انعكاسات بغيضة ومخلفات تاريخية مع اسرائيل. ولا تظن المعارضة أن أحدا سوف يستفيد من هذه العودة سوى الأسد نفسه. وهذه وجهة نظر لها اعتبارها، لأن هناك وجهة نظر مضادة ترى في العودة فائدة للشعب السوري الذي يعاني الأزمات أضعاف مضاعفة، وأنه ربما يفتح النقاش مع "نظام" الأسد الأجواء ويحسن المناخ العام في البلاد.. فالقطيعة وقد كانت كاملة والحصار وقد كان شاملا لم يحققا أي شيء لا للشعب ولا للمعارضة.
وكانت المحصلة عدم احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها وبدء خطط تقسيمها، ولم يتحقق سوى معاناة الشعب السوري، وتحول قطاعات واسعة إلى طوابير لاجئين، وإلى ملف ساخن على مائدة الاتجار بالبشر، وإلى أوراق ضغط في إيدي دول وإمبراطوريات، وما نتج عنها من سيطرة جماعات إرهابية على بعض المناطق بسوريا، ومعاناة النازحين في ظل صعوبة الوضع الاقتصادي، وتجنيد عواصم في الجوار لسوريين كمرتزقة تدور بهم في مناطق النزاعات داخل وخارج سوريا. كل ذلك يدمي القلب، حتى لنحتاج ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي "ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق" احتجاجا علي القصف الفرنسي لدمشق عام 1926.
ربما يكون الوقت في صالح عودة سوريا إذا ارادت الدول العربية البدء في سياسة خفض التوتر في المنطقة، وأرى أنها بدأت فعليا منذ قمة العلا في السعودية، والتي تبعها المصالحة مع قطر، ثم جاءت جلسات الحوار المصري التركي، والتوازن المصري بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، وفي الخلفية من كل ذلك غروب شمس الإخوان في تونس.
وفك تجميد عضوية سوريا في الجامعة أمر ليس صعبا والقمة العربية المقبلة في الجزائر من اليسير عليها اتخاذ القرار الذي سيعطي أملا للشعب السوري.