أي سر في قناة السويس، وأي كيان هذا الذي يقفز على كل الصخور، إما بفعل الطبيعة، أو ما يصنعها أعداؤها، لتوضع أمامه لإعاقته، أي سر تجعله يرتقي فوق العقبات لتعلو قامته مجددًا.. وأي تحد هذا الذي يأتي مع كل حادث ليحوله إلى حديث، وكل محنة إلى منحة وعبور جديد..
لم تواجه هيئة أو كيان، في الداخل أو الخارج، هذا الكم من الشائعات وحملات التشكيك والحوادث الملاحية، كما واجهت قناة السويس والعاملون فيها، فلم تكد تفيق من حملات تراجع حركة التجارة العالمية بعد افتتاح فرعها الجديد عام 2015، إلا ودلفت إلى جائحة "كورونا - COVID-19"، تبعها توقف الحركة في القناة تمامًا نتيجة حادث جنوح السفينة "ايفرجيفن - EVER GIVEN"، يصاحب هذه التحديات، وفي خلفية هذه الحملات، إيقاع مستمر يراوح حركات الموج على ضفتي القناة، بشعارات وعبارت سابقة التجهيز مفادها "البحث عن ممر بديل"..
في كل موقف، وعلى مدى عقود، تستثمر إدارة القناة هذه الدعاوى السلبية والحوادث الكارثية لتحولها من نقم إلى نعم، متجاوزة كل العراقيل، مكتسبة مهارات جديدة، لترتفع مجددًا فوق العقبات، ومنذ بداية حفرها، لاحقتها كلمات يائسة حول جدوى هذا المشروع، لكنها ظلت أداة وركنًا ليس لربط البحرين المتوسط والأحمر فقط، بل لربط القارات والاقتصاديات، ومصالح البشر على كوكب الأرض.
من المنطقي أن تواجه القناة الأزمات في أوقات الحروب، 4 حروب على مدى 17 عامًا، العدوان الثلاثي 1956، وحرب 1967، وحرب الاستنزاف "1968- 1973، ثم حرب أكتوبر الذي قادتنا للعبور إلى سيناء عام 1973.
كانت الأزمات التي واجهت القناة خلال الحروب قاسية، إلا أن ما تواجهه القناة أوقات السلم لا تقل عما تعرضت له في الحروب، وفي الوقت الذي توقعت خلاله المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام العالمية تراجع حجم التجارة العالمية عبر السفن والحاويات، جاءت تيارات قناة السويس معاكسة لما كان يتردد خلال 2016- 2020، وفي ظل كساد للتجارة العالمية، وتراجعت خلالها حركة التجارة البحرية عام 2014- 2015، وكان دخل القناة نحو 5 مليارات دولار، وبعد عامين فقط من افتتاح القناة الجديدة عام 2017، ارتفع الدخل إلى 5.7 مليار دولار، ليستمر في نفس المعدل تقريبًا خلال الأعوام 2018، و2019، إلى أن بلغ 5 مليارات و750 مليون دولار عام 2020 طبقًا لبيانات البنك المركزي.
وفي النهاية، كانت الرياح تأتي بما يشتهي رجال الهيئة، هكذا كان اعتراف الخط الملاحي "إيفر جيفن" بعد النهاية الناجحة لحادث الجنوح، وهو ماجعل المنظمة البحرية الدولية تشيد بهيئة القناة وأداء إدارتها، بل إن القناة لم تحافظ على معدل إيراداتها فقط، فقد زاد دخلها خلال أزمة كورونا بشكل عام، كما ارتفعت إيراداتها إلى 4.7 % في أول 5 سنوات منذ إنشاء القناة الجديدة، لتبلغ 27.2 مليار دولار، مقارنة مع 25.9 مليار دولار في السنوات الخمس السابقة، ومع تعافي التجارة العالمية وتراجع أزمة كورونا، مازالت الهيئة تتوقع ارتفاع أعداد السفن والإيرادات بحلول 2023 مقارنة مع مستويات ما قبل 2015.
لاشك أن القرار والتفاعل مع الأزمات يختلف، فقد حدث مؤخرا، كما يكشف رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع لكتاب البيئة والتنمية أثناء زيارتهم إلى الإسماعيلية الأسبوع الماضي، أن إحدى السفن الإيطالية كانت تقل 62 مصابًا بفيروس كورونا، ورفضت كل الموانئ استقبال السفينة خوفًا من الجائحة، وجاءت السفينة إلى القناة تطلب العبور، وقبل دخولها علمنا أن بها مصابين بالفيروس، كان أمامنا أمرين: في حالة رفض السماح لها بالمرور ستظل ذكرى علاقة السفية بالقناة سلبية، وفي حال الموافقة بالعبور، هناك مخاطر صحية محققة، ونظرًا للحالة الإنسانية، كان القرار الجريء بالسماح للسفينة بالمرور، وتم تطبيق فكرة جديدة وهي نظام "الإرشاد عن بعد" أي عدم التعامل المباشر بينها وبين كل ما على ضفتي القناة، ومرت السفينة بأمان أنقذ ركابها وبحارتها ومصابيها، كانت البدائل باهظة التكلفة على الأرواح وعلى الجانب المادي للسفينة ومن عليها، ومن بين هذه المواقف نبني ونراكم علاقاتنا بأطقم السفن وبحارتها وركابها فهم في النهاية بشرٍ.
حدث أيضًا مع بحارة وركاب السفينة "إيفر جيفن"، فقد استغرق بقاؤها عدة أشهر بعد تعويمها، نظرًا لتصفية عمليات وحسابات التأمين، وتسديد تكلفة الحادث، فقد عرضنا على ركابها وربانها المساعدة لتوصيل الرسائل لأهلهم وبلادهم، أيضًا للتنزه وزيارة المناطق الأثرية، فهم في النهاية ضيوف على مصر ولا ذنب لهم فيما حدث للسفينة.
أيضًا تعرضت إدارة القناة لتحدٍ آخر مع "سفينة المواسير" حمولتها حزم من المواسير الضخمة الطويلة تجرها عائمة وراءها في البحر، قادمة من الشمال، وتبين احتمالات شحط واحتكاك المواسير للشاطئ لوجود انحناءات في هذا الممر، ولما كان الممر الجنوبي الشمالي للقناة مستقيمًا، فقد اتخذنا قرار تبديل اتجاه الممرين، وتحويل العبور من الممر الشمالي إلى الجنوبي، وتمت عملية عبور سفينة المواسير بنجاح رغم التكلفة في الوقت والجهد.
لعل السر، في الماضي، يكمن في أرواح آباءنا الذين استشهدوا وضحوا بأرواحهم لكي تتبدل النقم أمامهم إلى نعم في وجه أحفادهم، وفي الحاضر، يتولد السر من عزيمة رجال القناة، ويفسره رئيس الهيئة، بأن عزيمة المصري ليس لها تعريف محدد، في كل موقف وتحدٍ أفاجأ بأداء لرجال يفوق كل التوقعات، وكان القناة تمثل لهم الكرامة الشخصية، قبل أن يشعروا بها باعتبارها واجبًا وكرامة وطنية.. إلى المصري عند القناة، قديمًا وحديثًا، حفرت فانجزت فعبرت فأمنت وللمستقبل أعددت.
[email protected]